مقعد راكب غادر الباص

 

1987

 

 

 

حياة

 

تمتدُّ إليَّ يدها

باحثةً في أحشائي

عن مدينة

وأنا ولدٌ أرعن، راكبٌ درَّاجة

يهرِّب زنزاناته في الليل

يمشي مخمورًا

حاملاً رجلاً مجنونًا منذ الصباح على ذراعه

ذاهبًا نحو مصحّ

محتفظًا من كل ماضيه بـ: أحشاء

ومفتاح

لا يجد له بيتًا،

الرحلةُ وضعتْه هنا

لينظر إلى الشجر

ولتسقطَ منها ورقتان

على كتفه.

 

 

 

البواخر راسية في الميناء

 

البواخر راسية في الميناء

لاعبو ورق، نشارة خشب، أمواج

وقططٌ صغيرة تنظر إلى الحمَّالين

 

نوعٌ نادر من الارتعاشات يقف في هذا الشارع

في الصباح مثلاً، حين تمرُّ الصنارات في اتجاه البحر، تبدأ المعامل في العواء

ترتدي النساء ثيابهنّ

ورجال الأعمال

الذين تركوا الشارع محمرًّا وراءهم

يبتسمون لسمكة كبيرة نائمة على الفرْش

الهواء يهبُّ الآن

أمرٌ غريب!

ربما في الملجأ السرِّي، هنا، حيث يستلقي كلبٌ على الباب

رأينا ذلك الرجل يلعب دورَ التلَّة

التي تنظر إلى البحر

 

أمام البواخر

أمام البستان الجميل.

 

 

 

أعتقد أن المروحة تدور يا ألن غينسبرغ

 

إسمعْ يا ألن

أنا على الرصيف وقد نفد تبغي

أفتحُ عينيَّ وأغمضهما

وأحيانًا أستعيد تلك الليلة حين مسحنا اللعاب عن أفواه الأموات

ثم نزلنا السلّم معًا

وتمشينا على البحر

 

المروحة تدور الآن

وأحبّ أن أعتقد الهواء سنونوة لطيفة وأنا أسند نفسي على الزواية مراقبًا تنمُّلَ ركبتيَّ

المروحة تدور الآن في رأسي يا ألن

وفمي الذي يشبه كشك جرائد

يتحلَّى بالصمت

بضعُ أسنانٍ ماتت فيه كما يموت الحيوان

وحدث أني في أحد الأيام

اكتشفتُ الصبر تحت شجرة

وتحدَّثت عن الروح في عربة بسيطة

ونحن نسير بمحاذاة النهر

 

الدخانُ يا ألن

الدخان، ورنَّاتٌ جميلة!

وفي الجهة الأخرى، على الشاطئ

الرملُ يقف وحده

وأحيانًا تُخرج له الأسماكُ حجرًا

ليجلس عليه،

هل هذا منظرٌ لائق؟

في يدي يومٌ قتيل

وأريد أن أدفنه بهدوء.

 

 

 

نقطة بعيدة

 

ملحٌ قليل ينام

في يدي التي أستمتع بصمتها الدائم

ملح

كأنَّ يدي كانت في الماضي بحرًا

ورأسي

الموجود معي الآن

يمشّط شعره في قارَّة بعيدة

 

أحلام

بعد منتصف الليل

في قرية

 

عابرٌ في شارع بسيط

فيه دكَّان

ونقطة بعيدة

أعتقد أنها مقعد.

 

 

 

ظله

 

ينحدر ظلُّه مع سيل طويل

متدفقًا من قرى بعيدة

يفكّر في جذع شجرة ربما

أو صيّاد سمكٍ نهريّ

يوقف تقدُّمه المجنون نحو محبة  فقدتْ رأسها

اليومَ أيضًا،

 

يتدفَّق بعيدًا

ناظرًا صوب حياته مثل حريق

شبَّ فجأةً في نزهة،

وينحدر ظلُّه

يوقظ بضعَ نسائم على التلَّة

وينحدر

في قرية مجهولة

قرية مجهولة تمامًا

لا يشعر بها سكَّانها حتى باللمس.

 

 

 

أذهب هادئًا إلى المرآة

 

عملٌ ناعم أن تنظر إليَّ

وتبتسم إذا ابتسمت

وأرجوك لا تقرع الباب

إني واقف على النافذة أتأمل الجسر

 

العملُ الشريف، أنا فعلته اليوم:

نظرتُ إلى البحر.

رأيتُ في الشارع ناسًا معطَّلين

ثم دخلتُ الحانة

شربتُ قنينة بيرة، وخرجتُ برأسٍ سكّير

متصورًا أن الله كان في الأصل عصفورًا

يزقزق للشعوب

إذا كانت الأمكنة ترقص في الخارج

لماذا لا تذهب وترقص معها

ألا تحبّ الموسيقى؟

صفوفٌ من البط

أريد أن أراها

وأنا مدعوّ

مدعوٌّ اليوم

كي أمشي كالدمية

ومن فتحات ثوبي يخرج لحم

يمكنك أن ترى مثله عند الجزَّار

ألوّحُ به وأفكِّر أنَّ العالم

ربما تنقصه عظْمةٌ ليمشي

ثم أذهبُ هادئًا إلى المرآة

وأمشّطُ شعري.

 

 

 

أمتعة رخيصة

 

في هذه اللحظة

وأنا أتحدث مع المساء كعاملَين خارجين من مصنع

يظهر أمامي مستقبل غريب

يكفي أن أنظر إليه حتى

يتدلَّى في الوديان،

 

في هذه اللحظة مستقبل يتدلَّى

أرسمُ له شبكةً في الوادي ليصل سليمًا

أو على الأقل حقيبته التي أنا فيها

وهكذا أصل

عظْمةً ساخنةً تخرج من ثكنة و تتنزَّه

تخبرني عن حياتها

عن جلدها النادر

وأطفالها المولودين في الغربة مني

ترسل لي كل مساء كلماتها حافية من بلد بعيد

لتسألني: ماذا ستفعل الليلة

ماذا ستفعل الليلة يا وديع

بحياتي!

 

ومن فمي الذي تستلقي فيه صرخات

الذي تستلقي فيه أمتعة رخيصة

تخرج كلمة وداع صغيرة

لا يسمعها حتى الجالسون في أذني.

 

 

 

نزهة المساء

 

غالبًا

وأنا أسير على إسفلت من لَحْم العابرين

تأخذني نجمةٌ بيدي في نزهة المساء

الوقت الذي يجرفون فيه النهار

 

نجمةٌ بين جبلين مطفأين:

فقيرين في حانة يريدان أن يؤوياني، وذهبتُ

وها أنا

في مصحٍّ فوقه نجمة!

 

هل كان عليَّ أن أمشي كل هذا الوقت لأصل إلى هنا؟

ولماذا؟

ألم يكن أبي يتبع العمَّال مسوقًا بسوط؟

لماذا إذن خرجت لأنزّه الكلاب غير المروَّضة في رأسي

بينما حياتي تموت من الجوع

وأطفالي ينظرون صامتين

 

إنني، بالكاد، أقود عمياني إلى البحر.

سنواتٌ كثيرة، ومكان

يرقص فيه المجانين مع الغرقى على ضوء سيكارة

 

الصمت كنزي الوحيد

ويده المرتجفة وراء الباب تقودني بلمسها.

 

 

 

العودة

 

الباب وحده في الليل

والليل في العاصفة

والعاصفة نحلةٌ تحوم حول ذراعي

وذراعي مستندة

على سطح سفينة

ذراعٌ بدأتْ زحفها منذ أول ريح حتى وصلتْ إليَّ

وبما أني وصلتُ أخيرًا

بما أني وصلتُ إلى قريتي

في صندوق كان قلبًا

أشكرُ الحمَّال الذي رافقني كرصاصة

تخاوت الآن مع الجرح

وأتأمَّلُ درفتين خشبيتين

تنزلان إلى الوادي.

 

 

 

الريح تعبث بشعري

 

الريح تعبث بشَعري

وأنا بين ضفتين أرسل للأولى يدي اليمنى وللثانية يدي اليسرى

لكنهما تخرجان من كتفيَّّ – هكذا ببساطة

وتختفيان!

 

رأسٌ

(ليس غريقًا تمامًا

وفي الوقت نفسه غريق تمامًا)

تعبثُ الريح بشعره الأسود

جالبةً من الجبال ربما، أو من السواحل

سمكًا غريبًا يحدّق بي

وأكتشفُ أنه رأسي!

ولكن المهمّ الآن

أين ذراعاي؟

هل رأى أحدُكم

أو أصطاد بالصدفة

شيئًا يسبح كالذراع؟

 

 

 

صحراء

 

مع ذلك فعلتْ يدي واجباتها

وكدحتْ كالحفَّار في صحراء

وبينما أهرّب الرمال التي كانت في الماضي أمواتًا

تغرز أظافرها في كتفي وتعيدني إلى صوابي

إلى تاريخها المصنوع من طحن اللحوم

وإلى ذراع الهدنة

في جزيرة تهبُّ عليها رياح الجرحى

حاملةً الطعامَ للجنود

 

جمعتُ ثروتي بالغزو و الحيلة

ودحرجتُ عقدًا طويلاً من اللآلئ

حتى وصلَ إلى عنق الحياة

أقول لها تعالي، تقدَّمي يا حياة هذا لكِ

لؤلؤ نادرٌ من خليج بعيد لا تعرفينه، وهو لكِ أنت تعالي

وتهرب مني

حياةً ألمّعُ لها لؤلؤًا وتهرب مني!

 

صحراء شاسعة

ليس فيها أحياء ولا أموات

وعليَّ أن أتابع الحفر حتى يأتي ميت!

 

 

 

النهار في رحلته الوحيدة

 

قبل أن تأخذني الرحلةُ بصبرها الطويل لأمشي معها

على خيطٍ بين جبلين شاهقين

كانت الحياة لا تزال في كهف

تنتظرني لأفكَّ أزرارها

وأمتصَّ حلمتيها اللتين يجري فيهما نهرُ الجنون،

 

وبينما المنارة تختارني وحدي

وتجنّد لي أضواءها منذ ملايين السنين

اكتشفتُ أنَّ الفندق الذي فجَّرته قذيفةٌ هذا الصباح

كنتُ نائمًا فيه!

ريشةٌ شاردة في الفضاء، أركضُ وراءها

قبل أن تتحوَّل إلى طير!

 

وفي ساعةٍ هَجرَها سكَّانُها

ونُقلت أمتعتُها في سفينة مع الفجر

حملتُ الحقيبة وخرجت

إلى الإبرة

التي تخيط جلْدَ عميانها بالطريق.

 

 

 

بلدان غريبة

 

هناك بلدان غريبة تنبت خلسةً في رأسي

بلدانٌ تستيقظ من ليل طويل وتفرك عيونها

بدهشة أعمى وحيد من سنوات

وصلَ فجأةً غريقٌ إلى ساحله

وأتخيَّلُ أني رأيتُ علامتي

في الحُفَر التي تركتها البلدان بعد رحيلها، وهناك

أيامٌ أصل إليها على حمَّالة

ومقاهي المدن جميعها تقريبًا في فمي

وفيها رعاة بقر

ورغم أني نسيتُ معطفي على كرسيّ المقهى

فإني مع ذلك أرتديه الآن في الشارع

والمطرُ كلمة خرافيّة

والأمكنةُ تعني: مغول ورائي

ولأني طردت نفسي من جنَّة الكلمات

إلى صمت يقف في منتصف الطريق كيدٍ مبتورة

أحاول أن أتملَّق بالإشارة عودَ كبريت

مترددًا بين أن يضيء أو يبقى في علبته

وبينما يصل إليَّ إيقاعُ الحياة من بعيد

كأصوات طبول في أفريقيا

أتأمَّلُ المدن التي مات جميع سكَّانها بالصبر

وأتابع الطريق

عابثًا بزرّ قميصي.

 

 

 

أحاول

 

أحاول

باليد التي خرجت مني إلى ذراعٍ أخرى

أن أوقف سيارة تأخذني في هذا الليل

إلى بيتي.

 

 

 

ضمير الغائب

 

بعدما قال وداعًا وخرج

بقي منه ظلٌّ صغير تصنعه لمبةُ البيت

فمشى وراءه.

اجتاز البوابة ثم، فجأة، أطفأوا الضوء

ففقد طريقه.

في الصباح

حين فتحت الخادمة النافذة

رأت ظلاًّ ينام

وحده على الإسفلت.

 

 

 

النظرة

 

كان يقعد على الدرجة السفلى، ينظر إلى الثلج ينزل أمام رواقه

ينظر إلى الطريق

متبينًا سيارات سريعة

آملاً أن يلوّح له راكبٌ ما

أن تتوقف سيارة، ينزل واحدٌ منها وينظر إليه.

تذكَّر فجأة ثلج ماضيه، حين كانت حياته في ذاك الليل

تجلس في الوسط، بين المقعد والكرات الصغيرة على الزجاج

تذكَّر هواءً قارصًا، وهمَّ أن يُحضر بطَّانيته

لكنَّ قلبه كان يقول له

إنَّ راكبًا سينزل الآن، ويتَّجه إليه.

في الصباح، لعب الأولاد طويلاً بكرات الثلج أمامه

وكان ناصعًا

وبعينين مفتوحتين، تمثاله.

 

 

 

الهجرة

 

حين ذهبوا لم يقفلوا أبوابهم بالمفاتيح

تركوا أيضًا ماءً في الجرن، للبلبل والكلب الغريب الذي تعوّد أن يزورهم

وبقي على طاولاتهم خبز، وإبريق، وعلبة سردين.

 

لم يقولوا شيئًا قبل أن يذهبوا

لكنَّ صمتهم كان كعقد زواج مقدَّس

مع الباب، مع الكرسي، مع البلبل والإبريق والخبز المتروك على الطاولة.

الطريق التي شعرت وحدها بأقدامهم لا تذكر أنها رأتهم بعد ذلك

لكنها تتذكر ذات نهار

أن جسدها تنمِّل من الصباح إلى المساء بقمح يتدحرج عليه

ورأت في يومٍ آخر أبوابًا تخرج من حيطانها وتسافر،

ويذكر البحر

أنَّ قافلة من السردين كانت تتخبَّط فيه وتمضي

إلى جهة مجهولة.

 

ويقول الذين بقوا في القرية

إنَّ كلبًا غريبًا كان يأتي كل مساء

ويعوي أمام بيوتهم.

 

 

 

ذاك المساء، على حجر

 

كان كلُّ شيء في منتهى الرقة. العمَّالُ المتعبون، ظلال الحمائم، الملابس على الحبال البعيدة.

شعر أن حياته أيضًا كانت رقيقة معه ذاك المساء. مشى معها إلى أقرب حجر، وقعد.

تذكَّر آخر أغنية تعلِّمها في المدرسة، ورقص مع الشارع مع حديد المحلات المقفلة، وبلاطات الرصيف، التي كانت تخرج من طينها القديم وتبتسم.

مشى مع القيثارات

التي رقصت معه كلَّ الليل حتى

أصبحَتْ ضلوعَه.

على شعره نسمة هواء.

في عينيه نجوم في عنقه عقد.

همَّ أن يقول لأحد قربه: هذا العقد هدية من عيد ميلادي.

لكنه التفت إلى الحجر الوحيد

لَمَسَهُ بلطف

وأغمض عينيه.

 

 

 

رفقة

 

كان لا يخرج إلاَّ في الأيام المشمسة ليكون له رفيق:

ظلُّه الذي يتبعه دائمًا.

ينظر وراءه ليتحدَّث إليه، ليبتسم له.

يلتفت بخفَّةٍ لئلا يغافله على دَرَج ويتسلَّل إلى بيت

يخبره حكايات مشوِّقة لئلا يضجر منه هذا

الظلّ ويهرب،

في الصباح يُعِدُّ كوبين من الحليب، على الغداء يُعِدُّ صحنين،

وكان يعود إلى بيته عند غياب الشمس

يقعد على حجر

ويبكي حتى الصباح.

 

 

 

الحشد

 

تلمَّس قماش المقعد وعرف أنه ليس وحده

أحسَّ بفرحٍ غريب وهمَّ أن يغنِّي،

لأوَّل مرة يشعر بجسد هذا المقعد،

بالأيدي التي صنعته وربما هي معه الآن،

بالمدينة التي جاء منها، بالحمَّالين الذين أوصلوه إلى الغرفة،

بالذين جلسوا عليه من عهد بعيد،

وها هم جميعهم، واحدًا بعد واحد،

يدخلون.

 

نظر إلى يديه، ثم إلى الحشد

فإلى المقعد بلومٍ شديد وخرج

صافقًا الباب وراءه.

 

 

 

المتعبون

 

المتعَبون يجلسون في الساحة

ينصتون إلى عبور النسمات، التي كانت في الأرجح بائعين متجوّلين

أو متسكّعين، فقدوا أقدامهم

 

للمتعبين ساحة

بلاطاتها، مع الأيام، اكتسبت صفات إنسانية

حتى أنها إذا غاب واحدٌ منهم

تبكي.

 

المتعبون في الساحة، وجوههم ترقُّ يومًا بعد يوم

وشَعرهم يلين

في هواء الليل و الأضواء الخفيفة،

وحين ينظرون إلى بعضهم ترقُّ عيونهم أيضًا

إلى درجة أنهم يظنون أنفسهم زجاجًا

وينكسرون.

 

 

 

الربيع أخضر، السماء زرقاء

 

لا يمكنه فعل شيء

الهرَّة وحدها تجلس قربه

يدغدغها، يداعب صوفها الناعم، يقول لها كلمة

لا تعني شيئًا ولكن فقط كي يسمع صوته.

شعاع ضعيف يدخل غرفته ويقعد على الكنبة

يبقى لحظة قرب ساقه، ثم يرحل

وبين وقت و آخر تنتابه هبَّات هواء

لا يعرف إن كان عليه أن يستعملها لقول شيء ما

أو للتنفُّس

العلامة الوحيدة للحياة في الخارج بقعةُ رطوبة صغيرة على الحائط

لكن، معه تبغ لهذا النهار

أيضًا صورة في محفظته يدخّن غليونًا

يمكنه أن يستعيض عن الحياة بالصور، وراح يغنِّي:

الربيع أخضر، السماء زرقاء

في الصباح تطلع الشمس في الليل يطلع القمر

الجهات أربع و الفصول أربعة

ومن الجهات والفصول تأتي الأرانب والرياح والغناء

وعلى التلَّة حجر، على التلَّة حجر.

ثم لمس هرَّته بحنان

داعب صوفها الناعم

وعاد إلى النوم.

 

 

 

خطوة ناقصة

 

المقهى في الزاوية. يكفي أن يحرِّك قدميه قليلاً حتى يصل.

تقدَّم خطوة ووقف. السماء صافية والنجوم

عذبة إلى درجة أنها لا تنظر إليه،

وفي الساحة لا شيء، فقط عشبة صغيرة في شقّ حجر

وقف يتأمل ورقها الخجول

ومشى، متأكدًا أنها لا تعرف حتى اسمه.

 

شيء كالصراخ يدخل أذنيه

ورغم أنه يعرف أن الإسفلت ليس ضلعًا بشريًا

رفع قدمه.

ثم ضحك

ضحك كثيرًا حتى جرت أنهارٌ من عينيه

فيها ظلال أشجار وأسماك وبيوت

وعجائز ينقلون كراسيهم إلى الشمس أمام الباب،

ضحك حتى غابت قدمه وغاب الإسفلت

وصدى "صباح الخير"

من آخر الخارجين من المقهى.

 

 

 

مقعد راكب غادر الباص

 

وداعًا أيها الله، إني أمشي ناظرًا إلى قدمي، ذاهبًا إلى المقهى للقاء الأصدقاء

وداعًا، إني أشيخ، المقهى في الساحة، أصعدُ درجتين وأجلس

سمعتُ كارمينا بورانا ومشيت، المسجّلة تغني الآن وحدها،

قرب الشبّاك المغلق

مطر خفيف على الزجاج، مطر خفيف على الميناء المقابل

وداعًا، الساعة الرابعة، معي موعد مع أصدقائي

أصعدُ درجتين، وأجلس

نضحك فاتحين فمًا على فم، ورديين خارجين من البرَّاد

من الأسكيمو مع الدببة، من الأسكيمو مع زحَّافات تجرّها الكلاب، مع جلود الماعز

فمًا على فم، كمتناكحين

متزوجين الضحكات الإلهية، الكلمات غير المفهومة، الأجنحةَ التي لبستها الملائكة، وطارت

متزوجين خمسة سنتمترات من الهواء

تسبح فيها أفواهنا، ملائكةً جديدة، طيارين ساقطين بمضادات

اوراقًا روحية ممزَّقة، قطعًا من الأشباح، آلهة متروكة على الأدراج

نتحدَّث ساحبين من أفواهنا إبرَ الكلمات، الخيوط من عروقنا المنسوجة بقياسات غير دقيقة

ونذهب في الشوارع منشرحين اننا تحدَّثنا، ورمينا برتقالاً من النوافذ، وسمعنا الصمت المرتجف للطرقات

أننا تعاركنا مع صاحب المقهى، تعاركنا مع سائق الصهريج، تعاركنا مع الله، وخرجنا

شارل بلحيته الشقراء ككوز تين، ببنطلونه المصنوع ليتَّسع لناس آخرين لا يجدهم

عباس برأسه المصبوب في المعتقلات

ماري بجسدها النازل من جبال الثلج، وعلى وشك أن يذوب

عبده بغرفته الجديدة، هاربًا من حميدة العجوز، ليستمني بحريَّة

عقل بحبه الضائع، بإيزادورا، بوجع ظهره، بالـ "آر. بي. جي" التي سقطت أمامه

ضاحكين ضاحكين ضاحكين

نرفع أيدينا في الفضاء، نخفضها إلى الأرض، نعيدها إلى جيوبنا

نصبُّ على أنفسنا الماء لنستفيد من أجسادنا

سجَّاداتٌ تحت الشتاء، وبرٌ ناعم يتحدَّث مع المارَّة،

قاطرات منبثقة من العورات

ونصرخ معًا: وصَلَ الباص الإلهي، وصلت حقائبنا

حقائب حقائب حقائب، حقائبنا ضائعة بينها فلندخل المقهى

نُجلس معنا على الطاولة وبر أجسادنا، نجلس لحانا،

معاركنا استمناءاتنا غلَّة نهارنا من بيع قطع مغشوشة من التخيُّلات

ممالك بيضاء تغنّي على النوافذ

أبديةٌ في الممشى، أبدية مربوطة بخيط

ونُرجع الكرسيَّ قليلاً ليمرَّ الهواء،

وداعًا

وداعًا أيها الله

بالهواء الذي يمرُّ بيننا، بالماء الذي دلقتَه عليَّ، وداعًا بعينيك اللتين تترصدانني من وراء الباب، بفمك الأزرق، بنظَّارتيك المصنوعتين عند "نظَّارات الحكيم الطبية"،

ويديك اللتين تقولان لي: هذا هو الطريق

وداعًا بمعصميك الجميلين، بساعتك التي تشير إلى وقت مجهول، الساعة الرابعة الآن، وداعًا

شبطين، 6 كانون الأول 1962، أبي –هيكلٌ عظميٌّ محروق يُسند ركبتيه بيديه، وكنبةٌ يخرج منها الدخان

شعاع قمر يدخل من الكوَّة

وعلى المائدة سمكة غير ملموسة، قنينة عرق فارغة، ورقة لوز أمام الباب

كنت أزن 40 كيلو مع الورقة التي أكتب عليها الشعر

40 كيلو مع ابتسامتك، مع نظرتك، مع يدك على كتفي،

مع سمكتك على الطاولة، مع لحمك المحروق

40 كيلو مع دخانك

جواد الجنّة ينطلق، نقطةُ عرَق على جبهته

"صان بوت" تبحر إلى لارنكا، تمشي على البحر قرب السمك، "صان بوت" الشمس الخشبية المسافرة

تودّعها يدٌ يتحرك خنصرها قليلاً، ويعود إلى مكانه

نتحرَّك في مقاعدنا، نمرّر أصابعنا على شعرنا، نضرب دماغ الوقت قبالتنا على الحائط

مرتدين قمصانًا مفتوحة على الصدر، ننظر إلى بعضنا ونبتسم

ننظر إلى العابرين الذين يشبهوننا

جالسين وسط دخان السكائر، جالسين أو واقفين أو عابرين، آكلين حجارة الشارع، آكلين الشرفات من أمام السيارات، من أمام عربة التوقُّعات التي توقفت عندنا

حاملين رأس المحبة عاليًا وصارخين

شرايين محطَّمة، أمعاءُ أرض طويلة مرمية على حوافي الطرقات

حاملين سواحل، أبراجًا، قطعًا هوائية، هياكل سفن، أيدياً وأرجلاً وصدورًا تلبس القمصان

وقدمُكِ يا أمي التي تقيس 20 سنتمترًا

حذاؤكِ الذي صنعه لكِ شقيق أبي سنة 1957، ولا تزالين ترتدينه الآن

أظافركِ الطويلة وأنت تنتظرين أن يبتسم وديع لتسأليه: هل تقصّها لي؟

ركبتاك الزاحفتان على الشوك والحجارة نحو ضريح قديسة،

ليتوقف أبي عن السكْر

فستانك الوحيد كأنه لاصق بجسدك، جسدك المترهل الذي خرجتُ منه ذات يوم حاملاً عينين صغيرتين وأصابعَ بالكاد تحتمل الهواء

مادًا يدي تحت نقاط المطر لسيارات سريعة

ذاهبًا إلى باريس بالأوتوستوب

أقنع صاحب المقهى بلغة فرنسية ركيكة

Une bouteille d’Arak extra

لقاء ترويقة مجانية

نائمًا تحت مواقف الباصات في ثلج كانون الثاني

نائمًا في مأوى العجزة، مع مئة وخمسين عجوزًا يسعلون طوال الليل ويذهبون بالدقائق إلى المراحيض

على نهر السين، مع ورق الشجر على المقاهد

على الطريق مع حقيبة كبيرة، راميًا أغراضها قطعة وراء قطعة، وقارئًا على جذوع الشجر: "الصيد ممنوع"

في هندايا، بيدين فارغتين أخيرًا على الحدود الإسبانية،

وتنقصني عشرون بيزيتا للوصول إلى مدريد

وداعًا

الكنبة قرب الباب، القنينة على الطاولة، الله في السماء، أبي في القبر، الثلج على الجبل

الوقت مغمىً عليه في الشارع، الحياة جالسة مع صديقها وراء الصخرة، غناءٌ يصل إليَّ من مكان بعيد

نمشي حاملين أجسادنا، ملفوفين بضمَّادات عتيقة من الضلوع، ملفوفين بعروق مسروقة، بجلود ناعمة ناجية من الحروب

نضع جسدًا أمام جسد ونحدِّق في الحيطان

هاي، لويس، أعطنا كأسًا أخرى

سركون سيكتب الليلة مئة قصيدة، جاد سيكتب رواية كاملة عن الحرب اللبنانية ويهاجر غدًا صباحًا إلى ملبورن

أعطنا كأسًا يا لويس

الدماغ سيتحوّل بعد قليل إلى قطة لطيفة، العميان سيبصرون، الأبدية ستدلّي أثداءها وتقول خذوا، الله أخيرًا سيقدّم شفتيه، هذه الكرة الأرضية ستصبح من مسروقاتنا الخاصة

سأصبح ملكًا يا لويس اعطني كأسًا

برجي هو برج السرطان، عندما أستيقظ أجد نفسي في العالم من جديد وأنظر مليّاً في عورتي

أمشّط شعري وأخسر منه عشر شعرات تقريبًا

برجي هو برج السرطان، برج بلا شَعر، بيد صغيرة بالكاد تزحف على الأرض، بعينين شبه مرئيتين تؤديان خدمتهما الإجبارية على الصخور

أحتفظُ بمنظر سفينة تبتعد، بأصداف ابتسامات غريقة،

بعيون عميان منسية على الرمل

أحتفظ بليالٍ فقيرة تأتي إليها الرياح بالصدفة

ولكن يا لويس أنتَ لا تفهم كل هذا

فقط قلْ لي: لماذا لا تدع صديقي يسند قدميه المتعبتين على زجاج مقهاك وهو بعد قليل سيتابع المشي كل حياته

اسمعي يا أمي مريم العذراء اسمعي يا أمي فرنجيه، أنا لا أحب لويس

الياس صديقي، شعيا صديقي، لكني لا أحب لويس

المطر ينزل على النافذة

في الخارج أواني زهور، كنبةٌ أعتقد أنها تبلّلت

على المقعد كتلة صغيرة، أعتقد أنَّها هرَّة

واقف في شارع صغير، أمدُّ يدي للمارَّة

أنت تعرف يا جاد، كان ينقصنا ربع ليرة للوصول إلى ساحة البرج

مبسّطٌ في شارع الحمراء، مبسّط أمام كلية الآداب، قرب بائع فستق سوداني، أبيع "ليس للمساء إخوة"

وبعد ذلك المعامل في أوستراليا، النهوض في الرابعة صباحًا

وانتظار الباص، والوقوف تسعة أشهر أمام آلة في مصنع هولدن لجمع تذكرة العودة إلى بيروت

ثم 1975

وحقيبة أمشي بها بين قرية وقرية بائعًا الاسعافات الأولية للمسنّين

قوموا نبحث عن مقهى آخر

"داون تاون" بناء حجريّ جميل، فيه كراسٍ تطلُّ على البحر

نجلس

ونضع إصبعين على البار،

وداعًا إني أشيخ

معي في صدري ضلوع ضعيفة، كانت ترغب يومًا أن تلعب الجمباز

معي رأس بكامل تجاويفه

معي يدان صامتتان أرافقها كل النهار، ثم نتصافح ونذهب إلى النوم

ماذا يفعل كسولٌ على مدى أربعين عامًا بهذه الأعضاء؟

وداعًا

القمر على الماء، رَجُلٌ على الطريق، وشاحنة مسرعة

نمشي كتفًا على كتف، مصطدمين بأنفاس عمياء

راكضون راكضون راكضون

حاملون الحقائب، حاملون الأولاد والنساء، الطاولات والكراسي و المزهريات، وراكضون

متسابقون بأقدام نحيلة، بجذوع أشجار مكسورة، وما الداعي؟ مناسبة متواضعة: الحياة

وداعًا، النافذة أمامي تطلُّ على الميناء، ومغلقة منذ البارحة

المطر خفيف وجميل، الكنبة في الخارج، الأبدية في الممشى،

يدي على الطاولة

قَدَمُ أمي تقيس 20 سنتمترًا

وداعًا.