قبضُ ريح

وديع سعادة

(مقالات نُشرت في "النهار العربي والدولي" في بيروت بين عامي 1981 و1982)

 

يا ضيعانها

(أقفلوا مستشفى الأمراض العقلية الملقبة بـ "العصفورية" في بيروت لأسباب تجارية)

شطحة من قلم وكل "عصفورية" وأنتم بخير. ما عاد عندنا عصفورية مجانين. راحت يا ضيعانها، وكانت الوحيدة العاقلة بيننا.

خمسين عاماً أوت مجانين لبنان والعالم العربي، وجاء قلم "عاقل" وشطبها. لم يعد بيننا وبين المجانين بوابة. لم يعد بينهم وبين العصفورية الكبرى أي حاجز. شُرّعت الأبواب مثل كل الحدود.

وكما كل شيء، سلبوها. هذه الـ 160 ألف متر مربع التي ظلّت وحدها خضراء وعاقلة في أرض كلها يابسة ومجنونة على امتداد عشرة آلاف و 452 كيلومتراً مربعاً محلياً، ثم هلمّ جراً من الماء إلى الماء.

انتهى زمن الجنون الجميل كأنّ شيئاً من "تراثنا" انقصف. أُلغيت فسحة المجانين وفاحت منها رائحة الصفقات، رائحة صالونات السياسة وكبار الموظفين..

فاحت رائحة الوطن.

ما عادت العصفورية هذه الجميلة المميزة. إنها تتقدم اليوم، غريبة مشدوهة، لتنضمّ إلى بقاع هذا البلد، وتصبح كأي بقعة أخرى رمادية فيه... وتودّ لو تعود وتقفل وراءها البوابة الكبيرة، وتبكي.

أيّ مجنون يبدل عصفورية بوطن؟

أيّ مجنون؟

26/1/1981

 

خذوني إلى منغوليا

يقال في منغوليا ناس يشبهون الإنسان المنقرض.

يقال فيها بداءة واحترام للمسنين ودفن لائق للموتى.

خذوني إلى منغوليا.

تعبتْ روحي وأريد أن أستلقي.

طلعت الدكتورة ميرا شاكلي، أستاذة الأنتروبولوجيا في جامعة ليستر البريطانية، إلى المناطق الجبلية النائية في منغوليا واكتشفت: الإنسان النياندرتالي القديم، الذي قيل إنه انقرض، لم ينقرض. اسمه "شعب الألما" ولا يزال يعيش على أرضنا في آخر القرن العشرين.

علماء الأنتروبولوجيا، قبل الدكتورة ميرا وبعدها، طلعوا إلى الجبال وصحّحوا خطأ أسلافهم وقالوا: لم يكن النياندرتالي همجياً ومتخلفاً، كما يظنّ الكثيرون. كان بسيطاً، متواضعاً، يحترم حقوق الإنسان أكثر من جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان، على الأقل.

طلعت الدكتورة ميرا إلى جبال منغوليا، ففرّ "شعب الألما" من وجهها.

أرادت إيفاد بعثة علمية مجهّزة تجهيزاً كاملاً، لتجلب النياندرتالي إلى الحضارة.

لا يا دكتورة ميرا أرجوكِ.

اتركي شعب الألما. تسلّي بشيء آخر.

الإنسان البدائي ليس فوق. المتخلّف ليس هناك. إنه في مكان آخر. في كل مكان آخر، إلا هناك.

رأى النياندرتالي ربطة عنق الحضارة، وهرب. ترك سفوح الجبال إلى إعاليها.

إلى أعلى عزلة، وأعمق عزلة.

2/2/1981

 

"وَعْ" على المريخ

أكيد، قبل أن أجد بيتاً أستأجره في هذا الوطن المفدّى، سيأتي من يقول لي إنه سمع "وَعْ" على المريخ.

سيطلع البشر إلى فوق وينجبون أطفالاً "يوعوعون" وأنا لا أزال أبحث عن بيت وأترجّى حبيبتي أن تنتظرني لأجد سقفاً، بينما تهمُّ أن تصعد، هي الأخرى، إلى المريخ أو... إلى السماء.

ولكني أعود فأقنع نفسي: أشكرْ ربك يا ولد، أكيد أمك صلّت لأجلك ليل نهار طوال 30 سنة، ونذرتك ومشت حافية على الشوك، حتى كان لك الحظ والشرف في إيجاد غرفة في فندق طولها أربعة أمتار وعرضها متران وإيجارها 1500 عدّاً ونقداً. طُبْ بوس الأرض يا ولد على هذه النعمة.

تعرفون المارد طبعاً، الطويل العريض صاحب الباع والمعجزات الذي يحوّل التراب ذهباً ويجعل الأسود أبيض والزرافة بقّة ويخلق من لا شيء أي شيء يتمناه... هذا المارد يسكن قمقماً في لبنان يا سادة، لأنه والله عاجز عن غرفة.

وأعود فأقنع نفسي: لماذا البيت؟ قبلك من قال ليس للإنسان أن يسند رأسه، وأنت لست أذكى منه. لماذا البيت؟ الأرض كلها لم تعد صالحة للسكن. لم يبق شيء يستحق أن تسكن من أجله، ولا شيء جديداً يستحقك إذا جاء، ومهما عظمت آمالك فهو لن يأتي. لماذا السقف وكل شيء منهار؟ وممّ سيقي، هذا السقف، إذا وُجد؟

9/2/1981

 

هذا الأبله العاشق

من أين يبدأ الذي يريد أن يقول إن كل شيء عبودية؟

من أية عبودية يبدأ وفي أية عبودية ينتهي؟

الكلمات، الأسماء، الإشارات، الأفعال، الأسئلة، الأجوبة، الأحلام: قضبان مُحكمةُ الإقفال. وأنت حُرّ بقدر ما تنسى. وبقدر ما ترى وتحفظ وتتمنى، أنت المنحني.

العبودية تجمع، والحرية تفرّق، فالناس كلما ازدادت عبوديتهم ازدادوا التصاقاً بعضهم ببعض.

مباركٌ الفراق الجميل.

مباركٌ كلُّ غضب يقصم ظهر الاتحاد والوحدة. ومبارك كل توحُّدٍ وكل وحيد. فأي عظَمة أن تكون وحيداً لا ينخرك التشبُّه ولا يسيء إليك الشبَه؟

الذاكرة، الذاكرة. هذه المتعاهرة مع كل الأجيال، والزوجة الوحيدة. أيُّ ختمٍ أسود، هي، يمهر نعجة الحياة ويوحّد في البؤس؟

اخرجْ، إذا استطعت.

اخرجْ من التاريخ، من المنطق، من الشوق، من اللغة.

الحرية أنْ تخرج، نظيفاً من كل شيء، ناصعاً وبرّاقاً ليس عليك من غابة التاريخ عشبة ولا في عينيك بحر.

تخرج وليس في قلبك جبل ولا عصافير في يديك.

تخرج فارغاً نظيفاً من كل شيء وتنظر من دون أن تفهم. تنظر النظرة الأولى.

أيّ أبله صغير هذا العالم المشتاق العاشق؟ المغرم بكل أنواع العبوديات، الهارب من كل نسيان حر، الساقط بخفة في الأكذوبة، الرافع سبابته باستمرار ليقول إنه العبد، الذي لا يفعل إلا أن يحنو على انحنائه.

أيّ أبله هذا الجالس في الذاكرة، الجالس في العقل، في الديمومة؟

امحُ، فالحرية أن تمحوها.

23/2/1981

 

أهمّ اكتشافات العصر

في التسعينات المقبلة بسرعة على ظهر ثور، سيتوصل العلم إلى تأخير سن المراهقة وتمديد سنوات الطفولة - حسب كتاب "ملفات المستقبل" لدانييل غاريك - ، هذا إذا لم يكبس "عظيم" زرّاً ويقضي على المراهقين والأطفال والعجزة معاً.

العدد الأكبر،إذن، في نهاية هذا القرن، سيكون من المراهقين والأطفال. ولكن لا تخطئ، عزيزي القارئ، وتتصور سماء نهاية القرن مليئة بالبالونات الملوّنة وطائرات الورق، والأرض سابحة في طقس من الفرح والضحك والحب والشيطنة. أنصحك بأن تتصور طفلاً شديد الحزن، قليل الكلام، كثير العدائية والغضب، ومراهقاً مجعّد الوجه محنيّ الظهر لا يعرف من المراهقة إلا تهجئة اسمها.

وقاموس لغة نهاية القرن سينزل حجمه من ألف صفحة إلى اقل من مئة. فكل الكلمات الجميلة المرهفة الناعمة، كالحب والشوق والدهشة والطيبة والحلم والكرامة والعذوبة والرقة... ستصبح كلمات بائخة خارج التداول اليومي ومن اختصاص المعنيين باللغات القديمة وحدهم.

وعلماء الآثار، إذا اكتشفوا رسالة حب أو بطاقة معايدة أو ورقة مرسومة عليها وردة، سيكون اكتشافهم هذا من أهم اكتشافات العصر.

وعلماء الأنتروبولوجيا، إذا صادفوا إنساناً يبتسم أو يسلّم على أحد بحرارة أو يقبّل عجوزاً هي أمه، سيعيدون أصله إلى القبائل المتخلفة المتحدرة من "الانسان" ويعملون منه قضية تستوجب الدرس والعناية والعلاج.

وأسمحوا لي أن أتفاءل: إذا كان أحدكم لا يزال يملك ذرّة من الطيبة، فهو سيكون أهم الاكتشافات على الإطلاق.

9/3/1981

 

الجالس بين 40 ألفاً وقوفاً

إيف جيبو روائي فرنسي له 6 كتب و 65 عاماً وآلاف القراء. منذ 12 عاماً وهو يعمل مصحح مسودات في مجلة "الإكسبريس" بتواضع. يزرع فواصل ونقاطاً وعودة إلى السطر، ويقتلع فواصل ونقاطاً وعودة إلى السطر. والكل في مجلة "الإكسبريس" يقول إنه يحترم السيد جيبو ويقدّره ويحيّيه رافعاً قبعته، من صاحب المجلة إلى رئيس تحريرها إلى مديرها المسؤول إلى آخر "غارسون" فيها.

نزل أحد كبار محرري "الإكسبريس" إلى عند المصحح المتواضع إيف جيبو وطلب موعداُ لحديث معه. وفي حديثه تكلم جيبو بعفوية وصدق. لا اعتدّ بنفسه ولا بالغَ ولا هجا فلان أو شتم فليتان.

وقال بلا خجل ولا وجل: أنا "بندوق"، ولدتني أمي أثناء الحرب من جندي عابر، ثم تزوجتْ من جندي آخر لم يمنحني حبه لأني لست ابنه، لكنه لم يعيّرني مرة بأني "بندوق".

لا المحرر أحرج جيبو ليقول ما قال، ولا مصلحة لجيبو في اعترافه. لكنها حقيقة وقالها بعفوية وتواضع، والذي كان يحترمه ظلّ يحترمه ويرفع قبعته ويحيّيه.

ولا داعي مطلقاً لكي ننقل الصورة إلى عندنا ونبحث عن جريء يقول إنه "بندوق" إذا اكتشف يوماً أنه هكذا. ولا داعي مطلقاً للتفتيش عن متواضع بيننا يعرف حرف الألف من العصا ويرضى بأن يعمل في زرع الفواصل واقتلاعها، أو ان ينزل أحد كبار المحررين إلى زارع فواصل ويطلب منه موعداً لحديث.

اسمحوا لي أخيراً أن أنقل من حديث إيف جيبو هذه الكلمة:

"أرفض كل سلطة ولا أقف للأناشيد الوطنية. إنه شيء مثير جداً أن تكون الوحيد الجالس بين 40 ألفاً وقوفاً".

6/4/1981

 

رجال السياسة... مثقفون

هذه الكلمة ليست موجهة إلى الرؤساء العرب، فهم، أساساً، لن يقرأوا، ولن يسمعوا، ولن يهتموا. ثم معاذ الله من يجرؤ منا على مخاطبة الرؤساء!

جريدة "لوكوتيدين دو باري" الفرنسية تتحرى: "هل رجال السياسة مثقفون؟"، ورجال السياسة ببساطة يجيبون عن أسئلتها. نذكر منهم رئيس دولة كبرى هو فاليري جيسكار ديستان.

يقول ديستان: "القراءة ضرورية جداً للمحافظة على مستواي الروحي والحسي". وهو يقرأ يومياً لا أقل من ساعة، في الأدب والتاريخ والبيوغرافيا والاقتصاد والقصص البوليسية... ويعرف فلوبير وتولستوي ومارغريت يورسينار وموباسان وأبولينير وشكسبير و... ويستمع الى الموسيقى ساعة يومياً لموزار وبيتهوفن وشوبان و... ويشاهد 10 أفلام تلفزيونية في الشهر، منها "ابنة حافر الآبار" و"ركبة كلير"... ويحدثك كاختصاصي في المسرح والسينما والباليه والرسم والنحت والهندسة والاقتصاد والاستعراض والراديو والتلفزيون وآداب العالم وحضارات الشعوب وعلم الأجناس والآثار وما الى ذلك مما هو "تضييع وقت" عندنا.

ويقول فاليري جيسكارديستان إنه كان يرغب في أن يصبح كاتباً (يبدو أنه عمل كثيراً من الخير في حياته فلم تتحقق رغبته)، وإنه يتعاطى فن الكتابة بين حين وآخر لكي يتذوق ما يرى وما يحس ويعرّف بما يؤمن.

"هل رجال السياسة مثقفون؟". معاذ الله، هذا السؤال ليس موجهاً إلى أي واحد من عندنا. أرجو ان تفهموني يا سادة، فأنا لا أوجه الكلام لكم، لا سيما الذين من بينكم تمتلئ مكتباتهم بالكتب البوليسية.

4/5/1981

 

خراب، خراب... ولكنه جميل

في كتاب صادر في باريس عام 1847، بعنوان "علاقة سنوات ببيروت ولبنان"، يقول مؤلفه هنري غيز، وكان قنصل فرنسا في لبنان في تلك الأيام:

"... كما هي الحال في كل أنحاء الشرق، ترى أسواق بيروت تزخر بالكلاب. إن المشاجرات التي تقع في الأحياء لا يحس بعاقبتها إلا المارة المحايدين الذين يخرجون من مأزق هذا النزاع المحلي ملطخين أو ممزقي الثياب. وما أسعد المتقاتلين المدفوعين بحماستهم الشديدة إذا لم يسمحوا لأنفسهم بأن يعضّ بعضهم بعضاً".

ما الفارق بين 1847 و 1981 سوى التكنولوجيا وازدياد عدد "السكان"؟

هذه هي مدينة جميلة تذكر بالقمر، وبكلمة نيل أرمسترونغ حين وضع قدميه على سطحه ونظر إلى اليمين واليسار والوراء والأمام، قائلاً: "خراب... خراب... ولكنه جميل".

وكما بيروت ولبنان، كذلك الشرق والغرب والعالم بأسره. كل شيء أصبح يذكّر بالقمر على الرغم من أكبر ناطحات السحاب. خراب... خراب... لكن هذا العشق الأبله يضيف دائماً: ولكنه جميل.

إنها أرض لم تعد للبشر.

لم يبق فيها غير ما يشبهنا.

لا مفاجأة. لا دهشة. لا إثارة. لا غريب.

لا ولادة إلا طبق الأصل عنا، إلا ومعروف سير قطارها السريع.

أرض لم يعد فيها ما يحثنا على البقاء. ولم تعد لنا.

إحصاء أميركي ذكر أن عدد الذين دخلوا مستشفيات الولايات المتحدة، عام 1980، مصابين بعضوض، بلغ 1872 معضوضاّ.

هذه الإصابات توزعت كالآتي:

453 عضتهم كلاب.

و1419 عضهم أناس آخرون.

11/5/1981

 

شيخوخة الأرض

جزيء الذرّة يدعى نوترينو (أعرف أنكم تعرفون وأن هذا لا يهمكم). هذا النوترينو لا وزن له، لذلك يمرّ أينما كان ويخترق الأرض من جهة إلى أخرى. وكل نحو مليون سنة تفقد الأرض نوترينو واحداً.

النوترينو يمرّ أينما كان، كأحلام تحررنا في هذا الوطن... ومنه.

يخترق الأرض من جهة إلى أخرى، كرغبة المتوحدين في اختراق الجموع من دون أن يستوقفهم أحد. كرغبتهم في أن يبقوا متوحدين وحيدين بين جموع عددها أكثر من اللازم بكثير، حتى لتتساءل، بلا جواب، عن جدوى هذا الوجود الطاغي لكل هؤلاء البشر الأحياء الذين طواهم كل هذا الموت... وتعيد النظر في كل ما جاء في الكتب، خصوصا أن الذرّة - هذه المادة الصغرى - تفقد نوترينو واحداً فقط كل مليون سنة، بينما أنت تفتقد في كل لحظة ملايين البشر وهم محيطون بك.

في كل لحظة تفقد حلماً. تفقد دهشة. تفقد حباً، صداقة، فرحاً، جمالاً، حكاية، ذكرى، رعشة، حياة...

في كل لحظة تفقد الأمل... وتفقد اللحظة.

وهكذا تشيخ الأرض.

الأرض وما عليها ومن عليها.

لكن الأرض تشيخ في بطء ونحن نشيخ في قوة. وشيخوخة الأرض بدأت متأخرة. فهي كانت دائمة الشباب والحيوية والألق... إلى أن ولد الإنسان.

العلم يؤكد أن شيخوختها بدأت حين أصبحت آهلة بالبشر.

العلم يؤكد، لا أنا.

8/6/1981

 

حدٌّ أدنى من الدماغ

منذ وُجدت الهياكل البشرية ومشت على هيكل الأرض، ما قُدّر لأي عبقري سوى استعمال جزء يسير من خلايا دماغه. وبهذا اليسير تفنى الشعوب... وأحياناً قليلة به تحيا.

إنسان الدول "المتقدمة" - الذي يقال إنه يستعمل من خلايا دماغه أكثر مما يستعمل إنسان الدول "المتأخرة" - لا يحرّك في رأسه إلا اليسير ومع هذا يكاد يزلزل الأرض.

العالم يركض على الخلايا. وكل خلية جديدة تتحرك في الدماغ تبتكر طريقة موت جديدة... وفي أفضل الحالات تطيل، فترة أخرى، التمتع برؤية العالم المنهار.

لو يعمّ الطلسم كل البقاع كم كانت جميلة هذه الأرض.

فشكراً للتاريخ الذي لم يسمح للإنسان بعد باستخدام كامل دماغه. فالمناطق النائمة من العقل نعمة كبرى، جميلة كالمجاهل، وادعة كالفراغ، ومسحورة كالعدم. إنها، في الأقل، منطقة السلام الأكبر.. كالإغماء.

29/6/1981

 

وتشبّهوا

يوماً بعد يوم، يتراجع مستوى الماشين على اثنتين، ويتحسّن مستوى الماشين على أربع.

النوع الأول يعاني القمع المتزايد باستمرار، والثاني يتقدم حثيثاً في الدلال والعطف والاحترام.

جموع تأكل جموعاً، وأصوات ترتفع: اعطوا لصاحب الذنَب حقوقه.

جمعية دفاع عن الحيوانات، وجمعية هجوم على الناس.

بلد يحاصر شعبه في الجوع، ويستورد المعلبات للقطط.

بلد ينفي أدباءه في الثلج، ويضع "شوفاجاً" في حديقة حيواناته.

بلد يعدم شعراءه بالرصاص، والجرذان تتمشى في شوارعه.

بلد يشرّد أبناءه على الطرقات، ويبني لكلابه الفنادق.

مليونير مصري فهيم أوصى بثروته التي تتعدى المليون جنيه للكلاب والقطط والحمير، وحرم أشقاءه.

حفل من المشاهير افتتح في نورفولك، في بريطانيا، فندقاً للكلاب، 30 غرفة مجهزة بأحدث الأثاث وأفخر السجّاد. وتدفئة مركزية طوال الليل والنهار، وجهاز إنذار يوقظ موظف الاستقبال إذا أصيب كلب بالأرق. اغتنموا الفرصة... ولكن الفندق محجوز حتى نهاية أيلول المقبل.

الغد، لا شك، للحيوانات. بيعوا الكتب والإيديولوجيات واشتروا كلاباً.

ماذا يفيد أن تكونوا بشرا؟

ماذا يفيد أن تكونوا مثقفين، فتشربوا النظريات في فناجين القهوة، وتتجمعوا في المقاهي كالمقعدين، ويكون عليكم، بين رشفة وأخرى، أن تشتموا هذا وذاك... ثم يمرّ كلب ويكون أسعد منكم؟

لا تقرأوا فيتعب نظركم، ولا تكتبوا فيتعب أكثر. تتغير عليكم الوجوه فترونها شاحبة وتقصر قامات أصدقائكم، حتى تغيب كلياً.

لا تضيّعوا عمركم القصير. فجأة يخطفونه وأنتم غارقين في الأحلام.

اعملوا مثل الناس.

طاحشوا واشتموا وابصقوا.

قوّصوا في الهواء وعبر الأجساد.

ادهسوا عابراً على الأقل في اليوم.

اسرقوا سيارة وإذا عجزتم فطاسة دولاب.

... واحمدوا الله لأنه خلق أشياء غير الحبر والورق. واضرعوا إليه أن يلبسكم، في حياة ثانية، جسد حيوان محترم.

13/7/1981

 

الثور منتهياً بتاء مربوطة

الثورة هي، في بعض البلدان، مؤنث الثور.

فالثورة في بلد متخلف هي ثورة متخلفة. والثورة المتخلفة هي نقيض الثورة. وهي، إضافة إلى أنها مؤنث ثور، مؤنث عقيم، شرس، وعدائي.

الثوريون، خصوصاً في هذا الشرق، هم مرادف القتلة. ثورتهم لا تعني غير الدم، والحقد الرخيص، والقتل الاعتباطي، والرجولة المخصيّة.

والثورة، في هذا العالم الثالث والأخير، تتباهى بعدد ضحاياها. فهي بقدر ما تقتل تكون. وبقدر ما هي قاتلة تصبح في نظر زعمائها وحرّاسها ومنظّريها الثورة الأصح. وبقدر حجم الكرامات المهدورة يكون حجم الحق.

والثورة عندنا، لسبب مجهول أو معلوم، إذا انطلقت من مبدأ صحيح، تقتل مبدأها دائماً... وأولاً.

والثوريون يلعبون باستمرار دور سواهم في القتل. والمضحك المبكي معاً أن خائن الثورة، في مفهوم هذه الثورة، هو من لا يقول نعم للقتل.

... وها نحن في ثورة دائمة منذ عشرات السنين، وربما إلى الأبد. ويوماً بعد يوم تزيد حدتها وتتسع رقعتها وتتقدم حثيثاً على الهياكل العظيمة.

تتقدم وسط التصفيق والتهريج والأعلام والأناشيد... وأكثر وسط الآهات، وأعمق في الأوجاع، وأشرس في موت هو أكثر مجانية من أي موت على الارض.

ثورة، بيوت حرّاسها من عظام الجثث. جلود زعمائها من الشعائر والعشائر. وأصوات منظّريها من حديد الميكروفونات.

ثورة يعمل موظفوها طيلة الدوام الرسمي. ومنهم من يتباهى ويمنّن زملاءه بأنه قتل اليوم أربعة أو خمسة اشخاص بعد وقت الدوام.

هي مؤنث ثور، ومع هذا تصيح. مؤنث ثور، وتنبح، مؤنث ثور، وتقيق...

والذين يبحثون عن حليب في مؤنث الثور هذا، لن ينالوا غير ضربة قرن.

وإذا كانت هناك أمانة في الكلاب النابحة، ففي أنيابها عضٌ أكثر.

وإذا الدجاجة الكريمة تبيض بيضة في اليوم، فإنها تروث بالعشرات، وتقاقي لبيضتها طيلة النهار.

20/7/1981

 

الحصان صامت، وأنتم تتكلمون

أمير

عربي

دفع

ثلاثة

ملايين

دولار

ونصف المليون،

ثمن حصان.

وتقبّل التهاني جالساً ساقاً على ساق.

وكل شخص في العالم العربي لا يتعدّى سعره ليرة لبنانية واحدة: رصاصة، أو أمرٌ بالتصفية يصدر مجاناً.

احسدوا الحصان ولا تحسدوا الرجال. فليس في حسدكم حصاناً أيّ تنازل عن حقوقكم كبشر، وليس في رفع شأن الحصان وخفض شأنكم أي غبن يوجّه إليكم. فهنا موطنه الأصلي، وأنتم لم تكونوا يوماً في أوطانكم إلا لاجئين.

ثم إن الأحصنة قليلة. والحصان حيوان ضعيف يحتاج إلى الرعاية، إذا جاع مات، وأنتم الفقراء لن تشبعوه لأنكم لا تشبعون حتى أولادكم. فكيف نترك الأحصنة تموت وتنقرض؟

اما سكان الأرض من الناس فكثيرون. مهما مات منهم، جوعاً أو قتلاً أو قمعاً أو نفياً، فلن ينقرضوا.

والحصان مسكين قانع لا يشكو ولا يفتح فمه إلا للصهيل. أما أنتم فتتكلمون، ولسانكم يطلق كلاماً فيه الرفض أحياناً والتذمر وقلة الحياء. تريدون الطعام، تريدون الشراب، تريدون الماء والكهرباء والدواء وزيادة الأجور والكتب المدرسية والمساواة والحرية والحياة... وكل يوم كل يوم تريدون الخبز.

الحصان متواضع، خلوق، جميل، وظهره أملس. الذي يشتريه يمتطيه ويذهب في نزهة، يتبارى في سباق، يرفع به رأسه. وهو يرحّب بسيد يركبه، لا يحزن ولا يعضّ.

أما أنتم، ولو مشيتم على أربع، فغالباً ما تحرنون... وظهركم غير مريح.

17/8/1981

 

تحرير الشعوب من نيتشه

عطلتي السنوية، التي غابت معها هذه الزاوية، لم تكن عطلة لي بقدر ما كانت عطلة جميلة للقرّاء. فالناس، كلما قلّت الكلمات، في الصحف وفي غيرها، ازدادت سعادتهم. فالكلام، في النهاية، هو أحد أسباب آلام البشرية.

طوال عطلتي تعمّدتُ أن أتجنّب صانعي الآلام وناقليها. لم أقرأ صحيفة، ولم أستمع إلى نشرة أخبار، ولم أكتب كلمة. صعدتُ إلى الجبل وعشتُ مع الفلاحين. هناك في البيوت خبز ونعاس واسترخاء وأوراق شجر، أكثر مما فيها من أوراق صحف وأحداث.

وها أنا، لسوء حظ القرّاء وسوء حظي، أعود من الجبل إلى العمل. وإذ أكتب هذه الزاوية فلا يعني أن لديّ شيئاً أقوله. وهي سواء، كُتبتْ أو لم تُكتب. وقد لا يكون الداعي الأساسي لأية كتابة غير الشهرة. وإلا لماذا لا أحد يكتب من غير أن يوقّع اسمه؟ ولا أعني هنا أن ما أكتبه سيحمل اسمي إلى الجهات الأربع أو إلى أية جهة. ما أعنيه هو أن الهمّ الأساسي من وراء الكتابة ليس العمل على خلاص البشرية وتحرير الشعوب، بل هو الاسم. وإلا لماذا كاتب المقال، حين صدور مقاله، لا تضرب عينه أولاً إلا على نهاية الصفحة حيث اسمه الكريم، وتقوم قيامته على سكرتير التحرير إذا لم يجد هذا الاسم؟

أقول هذا لأؤكد أن ما أكتبه لا قيمة له، وأن ما يكتبه سواي، في الصحف وفي غيرها، لا قيمة له أيضاً. فإذا كُتب أو لم يُكتب، قُرئ أو لم يُقرأ، لن يتغير شيء، لا وزارة الثقافة ولا وزارة التربية والفنون الجميلة، ولا المدارس والمعاهد والجامعات، ولا الرقابات ولا دور النشر، ولا مستوى الكتاب العربي ولا مستوى القرّاء العرب، ولا المجتمع المخملي ولا المجتمع البورجوازي ولا الطبقة الكادحة ولا.

لن يتغير شيء والكلمة ليست أقوى من السيف كما علّموكم. فأمام الموت لا يفيد الصراخ. وأمام البندقية لا تفيد عبقرية المتنبي. ولا شعر مجنون ليلى يوقف الحقد ولا شعر مجنون إلسا. والإنسان يتقزّم يوماً بعد يوم برغم أنف نيتشه، ويصير عبداً أكثر برغم تماثيل الحرية وصانعيها. والذراع التي يجب أن "تُقطع وتُرمى في النار لئلا يهلك الجسم كله" لا تزال عالقة في الكتف وستبقى.

وبعد هذا ما نفع الأحلام؟ وأيّ عزاء للقتلى وأهلهم؟ وما فائدة شراع صغير ممزَّق؟

20/10/1981

 

سذاجتهم تشفع بهم

في القفر العاقر الساقط من كل رجاء، كيف تُرجى ولادة جميلة؟ وكيف، في هذا الزمن المتخلف، نطلب حداثة؟

كيف يُلام كاتبٌ عربيّ على إفلاسه وكل شيء حوله قد أفلس؟ ومن يطلب شِعراً مضيئاً في هذا السواد، وحداثة في هذه الشيخوخة الخرفة؟

كان لا بدّ أن تفلس الثقافة العربية في هذا العصر، فأفلست وعادت كسيحة إلى الوراء. فالأمام مسدود بجدران وجنود يمنعون أي تقدّم.

كان لا بدّ أن ينهزم الشعراء والأدباء العرب. وطوبى لهم في انهزامهم، لأنهم معجزة يفعلون حين يبقى لديهم إيمان بالكلمة. معجزة حقاً، وهم رازحون تحت الكمّامات والبنادق، واللغة الوحيدة حولهم هي لغة الحقد والقتل.

كيف لا يسفُّ كاتب عربي في هذا الزمن، إذا كان حقاُ مرآة عصره؟

وكيف يُطلب منه ألا يسفّ، إذا كان عربياً حقاً؟

ففي الموت المتربّص من كل جهة،

والعشائرية الضاربة مضاربها في العقول والقلوب،

والعلْم المكتفي بفكّ الحرْف والتفلسف عليه،

و"الفكر" العامل حفراً ونهباً في الماضي المطمور جيفةً في الرمال،

في هذا كله، هل يقال لماذا فسد الملح؟

طوبى إذن لحاملي الأقلام، سذاجتهم تشفع بهم.

وطوبى طوبى للصامتين، لأن صمتهم هو الحق وحده.

2/11/1981

 

عودي إلى مضاربك واعملي الشاي

الخطّان المتوازيان، عند العرب، يلتقيان بإذن الله. ولكن ممنوع أن يلتقي حبيبان إلا بإذن القبيلة.

وشرط الكرامة العربية في الحب هو تمنُّع الحبيب. واستسلامه للحب هو العار، والدم يمحوه.

إنها أمّة ممنوع فيها الحب، والحب هو الدافع الأول للقتل والثأر للكرامة.

أمّة عدوّها الحب ! تصوّروا!

تحتقر الحب وتحلم بالتطور! تحتقره وتنادي بالتحرر! تقتل عاشقة وتتحدث في حقوق الإنسان ! تقتلها وتدين الاستعمار، وتنتصر للشعوب المستضعفة، وتتباهى بالتاريخ!

العاشق فيها مجرم والقاتل بطل. الحبيب فاسق وناحر الحب شهم. الصادق ذليل والمنافق جليل. وردة العشق للسحل وسيف الحقد للتمجيد. قلب المتحرر جيفة ورمح العشيرة راية.

آه يا أمّة كيف تريدين أن نحبّك وأنت عدوّك الحب؟

المرأة فيك محرومة على العاشق ومباحة للسلاطين... وحين تجعلين أمهاتك جاريات ماذا يكون أولادك؟

ممنوع فيك الحب، كيف يحقّ لك حلم الحرية؟

عودي إلى مضاربك فواجباتك معروفة: اسقي الإبل واعملي الشاي ودقّي على المهباج.

9/11/1981

 

بنيّ، أرجوك لا تأتِ

يا طفلي الذي سيولد بعد شهر، أنا الغبيّ الذي جاء بك إلى هذا العالم، سامحني.

أمك يا بني تنتظرك بفرح عظيم، وليس أكبر من فرحها غير خوفي. كيف لا أخاف عليك، كيف لا أخاف وسينالك أعظم جرح في الكون: ستأتي.

أنت الآن في المكان الجميل، في الجميل الأوحد، دافئاً مستكيناً ساهياً عن كل زيف، حنوُّ أمك يمسح عنك الألم. لا تراودك الأحلام لتكذب عليك. لا تطالك خيبة الانتظار ولا خيبة اللقاء... كيف تغادر لتصرخ فور وصولك ويقتلك البرد. تبحث عن غطاء ولا تجد. تبحث عن عزاء ولا ترى، عن رجاء ولا رجاء.

هل أنت آتٍ أيضاً لأجل الوعود؟ أيضاً لهذه الأحلام؟ أنت أيضاً يا بنيّ؟

أرجوك لا تأتِ. ابقَ في رحم أمك الدافئ فالعالم لا يستحق طلّتك البريئة. إنه العقاب القاسي لمن يغادر نعمة العدم.

لماذا تأتي ولمن؟ ماذا جئت ترى ماذا جئت تفعل؟ كل الذين وصلوا قبلك جاؤوا ليدينوك، كلهم. ترى نفسك فجأة محكوماً من الجميع، بالسجن بالنفي بالإعدام بالصمت، بجريمة لا تعرفها وتتساءل، وتموت في حيرتك.

لكنّ كل شيء قد تمّ الآن فما نفع الكلام؟ ستأتي لتملأ هذا البيت من حزن قلبك، ولن يفيد ندمي ولن تشفع صلاتك. نصيحتي إليك: لا تحلم، لا تنتظر، لا تصبو، لا تتذكر، لا تعمل.

نصيحتي إليك أن تستلقي طوال النهار، تراقب طلوع الشمس وغروبها.... وتنسى.

لم يبق شيء غير هذا، فلا تستعجل المجيء. مهما جئت باكراً ستصل متأخراً. تأتي وترى كل شيء قد أقفل. الساحات فارغة والبيوت مطفأة، ووحدك ستمشي هذه المسافة الطويلة كلها وحدك، محاطاً بالهواجس والأشباح والعيون، مغلّفاً جراحك الكبيرة بيديك الصغيرتين... وخطّ دمك على طول الطريق هو الشاهد الوحيد لعبورك.

16/11/1981

 

لو وجدناكَ... بمن نتصل؟

"فقدت كلبة "سترايلندي" لونها بني - أحمر. مكافأة لمن يدلّ عليها. ت 344047"

(إعلان مبوّب - "النهار" 24\11\81)

أتمنى أولاً أن تكون الكلبة العزيزة عادت إلى أصحابها. والله يشهد أني عندما قرأت هذا الإعلان أحنيت رأسي وصلّيت "مرة أبانا ومرة السلام" كي يضع الله نعمة الصبر في القلب المفجوع على فقدان كلبته. فأنا أعرف أن الكلاب هي أحياناً، وربما بحق، أعزّ من الناس، ولو نبحت.

وخيراً فعل صاحب الإعلان في إعطاء مكافأة لمن يدلّ على كلبته. فالمفقود في هذا الوطن، أو منه، لا يُردّ إلا نادراً جدّاً، ولكن بمكافأة يجب أن تكون دائماً أغلى من المفقود، أياً كان.

لكننا نادراً ما نقرأ إعلانات عن مفقودين من غير الكلاب أو السيارات أو المحفظات أو علاّقات المفاتيح. ولا أعرف إذا كان السبب هو أن ما يُفقد من أمور أخرى يبقى أقل قيمة من هذه الأغراض في نظر صاحبه. لكن الأكيد هو أن أشياء كثيرة غالية قد فُقدت، وتُفقد يومياً ولا تعود... ولا إعلان ولا احتجاج.

ولا أعرف إذا يعني هذا أن الأمور الكبيرة لم تعد تنفعها الإعلانات. أو أن الكبير يجب أن يُفقد بصمت. وأن المهمّ لا يقال. والوطن لا يُنعى، ولعلّ عدم الإعلان عن فقدانه ضربٌ من الذكاء، والبرهان أن كلبة صغيرة تذكّرنا به اليوم.

لكن... حتى لو وضعوا إعلاناً كبيراً أنك المفقود أيها الوطن، فمن سيبحث عنك؟

لو علّقوا إعلاناً على امتدادك، وبكل اللغات، من سيتوقف ويقرأ ويحزن ويفتش؟

وحتى لو فتشنا، أين نجدك؟ على أي طريق في أي بيت في أي دكان؟ في أي سجن عند أي جلاد؟

ولو وجدناك، لو... بمن نتصل؟

6/12/1981

 

يا سنة الكلب

استهلت الصين، قبل أيام، سنة جديدة هي سنة الكلب.

والكلب في الأساطير الصينية يرمز إلى الرجاء والصداقة ورباطة الجأش. وترى المعتقدات الصينية في هذه السنة، التي تأتي كل 12 عاماً، سنة مؤاتية للمظاهر الوطنية والإخلاص للقضايا الكبرى، وشبيهة إلى حد كبير بمزايا الكلاب.

فالكلب يا سادة يكاد لا يُذكر اسمه إلا مقروناً بصفة الأمانة، ليس في الصين وحدها بل في العالم كله. وهي صفة لا يتمتع بها أحد من أخوته الحيوانات، وتكاد تكون نادرة بين أبناء عمه البشر.

والكلب حارس مثالي. يهاجم غير المرغوب فيهم ويلوّح بذنبه للأصحاب مرحّباً بهم. فلديه حاسة قوية تجعله يعرف تماماً من هو الصاحب ومن هو العدو. وهو محط ثقة عمياء، يعتمد عليه الناس ببال مرتاح، فيغادرون تاركين بيوتهم مشرّعة في عهدته، فيحرص مخلصاً ولا يخون. وما ينطبق على البيوت والمراعي ينطبق على المؤسسات، التي يفشل عادةً الحرّاسُ من أبناء البشر في حمايتها، أو هم يطبّقون عليها مثل "حاميها حراميها".

وأجهزة البوليس في العالم المتمدن تعتمد على الكلب أكثر من اعتمادها على أصحاب البدلات. يكشف اللصَّ والمهرّبَ والكذابَ من دون أن يرتشي أو يرشو، وليست لديه مصالح شخصية ولا يحلم بصفقات.

ولعلّ النباح من أهم ميزات الكلب، فهو حين ينبح على الغرباء - ولا ينبح إلا عليهم - يؤدي لصاحب البيت خدمة قد لا يقدمها حتى أبناؤه، ويحافظ على القرية أكثر من مختارها. وحين نعرف أن ما ينطبق على البيت والقرية ينطبق على الأوطان والدول، نكتشف أي عمل عظيم وجليل هو النباح.

وللكلب صفات أخرى عديدة لا يتسع لذكرها هذا المكان الضيق. قد لا يكون أهمها الصمت حين يجب الصمت، والوداعة في مكان الوداعة، والصبر حين لا ينفع التمرد، والتمرّد حين لا ينفع الصبر، إلى ما هنالك من الأمور التي "يسهو" الإنسان عن تقدير الكلب لأجلها، "ويسهو" كذلك عن التحلي هو بها.

"وكالة انباء الصين الجديدة" استهلت سنة الكلب بكلمة تمنت فيها أن تكون هذه السنة سنة "كلب" بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وبما أن الصين دولة شرقية، نتمنى أن يكون نباح "كلبها" عالياً كي يصل إلينا، فتكون لنا في هذا العالم العربي سنة كلب بعد كل تلك السنوات الوحوش.

وجلّ أمنياتي أن أقول لكم: كل سنة كلب وأنتم بخير.

8/2/1982

 

عيد للطفل، عيد للموت

الهدايا التي يقدمها الكبار للأطفال، في عيدهم، تكان لا تحصى:

بضعة آلاف، جدد، يموتون جوعاً.

بضعة آلاف، يموتون قتلاً.

دفعة جديدة من المشرّدين والمهجّرين.

قافلة أخرى من المضطهَدين والعبيد.

يتامى حروب وثورات وانقلابات وحركات تصحيحية.

متسولون جدد وحفاة ومرضى ومعاقون.

وفي كل مكان للطفولة عيد كمبودي،

وعيد نيجيري،

وعيد غواتيمالي،

وعيد نيكاراغوي،

وعيد لاوسي،

وعيد سالفادوري،

وعيد روديسي،

وعيد غاني،

وعيد عربي بامتياز...

وفي هذا العيد، يستمر الكبار في إنجاب القنابل وخصي الطفولة. ويستمر الرغيف أغلى هدية لثلثي سكان هذه الأرض المتحضرة. ويستمر الذين تتوفر لهم رغيف وماء، في حمل الألعاب الرشاشة والبنادق لأطفالهم، ليتسلوا اليوم بلعبة هم غداً من ضحاياها.

وفي هذا العيد، عيد الذين لا تزال خيبتهم على قدر قاماتهم، يستقبل العالم كل عام ملايين أخرى من الذين لا ينتظرهم غير الخيبة والجوع والمرض والاضطهاد والموت.

وفي هذا العيد، يولد لكل مليون فقير جديد طفل متوّج، وديكتاتور لكل بضعة ملايين من العبيد.

ويولد لكل طفل رصاصة،

ولكل طفل قنبلة،

ولكل طفل شكل من القمع والإذلال،

ولكل طفل قيد،

ولكل طفل سجن،

ولكل طفل مرض،

ولكل طفل كآبة،

وخوف، وقلق، ويأس، وبغض، وقهر، وجوع، وموت،

... وحنين إلى الحب، بلا جدوى.

5/4/1982

 

حجر حضاريّ يفدغ رأسك

"الشغيلة" العرب، هذه الأيام، في ورشة مستمرة لإكمال هرم الحضارة. وهم ينغلون مثل النمل صعوداً وهبوطاً، إشارة إلى أنهم مصممون على إتمام البناء قبل انقضاء هذا العصر. فانتبهوا جيداً أيها المواطنون الكرام: رأس الهرم أصبح عالياً وضيّقاً، ومن الصعب في هذا العلو الضيّق أن تلتصق الحجارة بسهولة أو أن يحافظ العمال على توازنهم. لا تعرّضوا أنفسكم للخطر. قد يسقط حجر حضاريّ ويفدغ رؤوسكم، أو يهوي أحد العمال ويسحقكم. وتعرفون: في قانون السير كل الحق على من تحت.

ولأن كل الشوارع العربية، وكل الساحات، والبيوت، والمؤسسات، ومساحات الرمل والنفظ والوحل، تشهد ازدحام أحجار حضارية وورشة لا مثيل لها في التاريخ، فأنت يا عزيزي العربي لا بد آكلٌ حجراً، وما عليك في هذه الحال إلا أن تنتقي حجراً صغيراً أملس، لئلا يعقرك أو يخدش وجهك أو قفاك. فأحجار هذه الحضارة أنواع:

صفعة مهذبة يرتئيها مزاج المعمرجي، تضفي على بشرتك لوناً ورديّاً جميلاً. عليك أن تتقبلها بكل رضى ومحبة وشكر، لأنها أصغر الأحجار وأملسها على الإطلاق.

قذيفة تفصل رأسك عن باقي جسدك. فيربح المهندس حجرين بدلاً من حجر واحد ضخم وسمج.

إيديولوجيا تعفَّن قصداً كأفخر أنواع الجبنة. وهي غنية بالبروتيين الضروري لاستمرار تدفق الدم الأسود في عروق العمال.

رأسمالية مشتركة بين ملتزمي بناء الهرم، واشتراكية برأسمال قدره 300 مليون عبد.

ثورة مستمرة حتى النصر الكامل على المشاعر الشخصية لبناء حضارة موحدة الصف والأهداف.

إلى ما هنالك من الأحجار الكثيرة المختلفة الأنواع والأحجام التي تتناوب عليكم جميعاً أنتم الأحرار الـ 99،99 في المئة، مع رجاء خاص ألا تؤاخذوني على هذا الرقم التقريبي المتواضع، على اعتبار أن عدداً لا بأس به من العرب هو في المهجر.

19/4/1982

 

لا تدافعوا عن جبران، بل احسدوه

(لمناسبة الذكرى الخمسينية لوفاة جبران خليل جبران، والمئوية لولادته، كثرت الاتهامات والاتهامات المضادة والمرافعات والمدافعات في الصحف، "للغبن الذي يصيب جبران من لجنته ومن غيرها")

جبران خليل جبران هو المحظوظ الوحيد من بين جميع أدبائنا وشعرائنا وفنانينا، وهو الوحيد الذي نال حقه، وبامتياز، مهما قيل ويقال عن تقصير لجنته وتقصير الدولة، ومهما كانت كبيرة "الفضائح" التي اقترفت وتقترف في حقه.

فيكفي جبران حظاً أنه عاش في المهجر، بعيداً عن ممارسات هذا الوطن والإهانات التي يقدمها يومياً لكل حامل قلم فيه، ولكل حامل ريشة، ولكل حامل إزميل... ولكل من لا يحمل شيئاً من هذا، أيضاً.

ويكفي جبران حظاً أنه وجد في المهجر "أجنبية" تهتم به أقصى الاهتمام، وتسجّل له تحركاته، وحركاته، وما يقول، وما لا يقول، وتحصي عدد تنهداته في اليوم، وعدد ابتساماته وتقطيب حاجبيه ورفّات جفنه... فلولا هذه المرأة وتكريس نفسها، مادياً ومعنوياً لجبران، وتحويلها حياته إلى ما يشبه الأسطورة في ما سجّلت عنه، لما تعدّت شهرة جبران نصفها اليوم، ولربما كان أقل حظاً من كل أدبائنا.

ويكفي جبران حظاً أن له لجنة. مهما كان اهتمام هذه اللجنة ضئيلاً او كبيراً، ومهما ارتكبت من أخطاء أو لم ترتكب، ومهما ابتزت من أموال أو لم تبتز، ومهما عملت أو لم تعمل. يكفي أن له وحده، من بين كل زملائه المساكين، شيئاً اسمه: لجنة.

ويكفي جبران حظاً أن خمسينيته مرّت فعملوا له خمسينية، وأن مئويته ستأتي ويحيون له مئوية، سواء فشلت الخمسينية أو لم تفشل، وسواء ستنجح المئوية أو لن تنجح.

ويكفيه حظاً أن هناك من لا يزال يذكره في هذا الوطن، بعد مرور خمسين سنة على وفاته.

فغيره مات في كل الذاكرات، وهو بعد حيّ. أو قُتل قتلاً، بالمعنيين الجسدي والمعنوي، ورأى بعينيه كيف يُقتل.

وغيره وُضع على قبره حجر النسيان الأبدي الكبير في اليوم الأول لموته.

وغيره لم يجد من يهتم به، ومن يحصي تنهداته، ومن يردد اسمه.

وغيره لم يشكل له أحد لجنة، لترتكب الأخطاء أو لتصنع الفضائل.

وغيره لم يُعِدْ أحدٌ طبعَ كتابٍ له، ولم يكتب أحد مقالاً عنه، بل نُهبت مخلّفاته وانتهكت آثاره، وبيع، وهو ميت، بسعر أرخص، ورُمي ما تبقى منه في القمامات.

لذلك،

احسدوا جبران ولا تدافعوا عنه. احسدوه جميعكم يا من ماتوا ومن لا يزالون أحياء.

لا تقولوا إن جبران مغبون وتملأون الصحف بمرافعات الدفاع عنه. فجبران لا يحتاج إلى دفاع بقدر ما يستحق الحسد. الحسد، حتى لو نهبوا قبره.

3/5/1982

 

شهداء الصحافة ينعون أحياءها

السادس من أيار، يوم شهداء ساحة البرج السعيدة الذكر في بيروت الذين شنقهم جمال باشا التركي، تحوّل يوماً لشهداء الصحافة الذين شنقهم، ويشنقهم يومياً، جمال باشا آخر "مجهول باقي الهوية".

لكنّ الذين استشهدوا في ذلك الزمان استنكر الجميع مقتلهم، أما الذين يستشهدون في هذه الأيام فبصمتٍ مخجل يُقتلون، ولا أحد يستنكر، ولا أحد يجرؤ على تسمية القاتل.

وإذا كان عزاء الذين قُتلوا أنهم ماتوا وارتاحوا من الظلم اليوميّ، فإن الأحياء لم يبقَ لهم غير أن يتساءلوا إذا كان هؤلاء وحدهم هم الشهداء أم أن الشهداء الحقيقيين هم الذين لا يزالون أحياء؟

نعرف، بكثير من الخجل والأسف والعجز، أن الصحافة العربية أصبحت الشهيد الذي يتكرر استشهاده كل يوم، وأن الصحافيين العرب يداومون على هذا الاستشهاد وهم يتنفسون هواء القمع والذلّ.

الأحياء يشهدون على شهادة الشهداء، وليس من يشهد على شهادة الأحياء.

وإذا كان عزاء الموتى أنهم ماتوا، فما هو عزاء الذين لم يموتوا بعد؟

وإذا الذين استشهدوا قبلنا قُتلوا لأنهم باحوا بما رأوه وعرفوه، فمن من الذين يرون ويعرفون اليوم يتجرأ على البوح؟ من منهم يقدر على أكثر من الصمت، في أقصى درجات صدقه؟

وكم بقي من الصحافيين الذين ما زالوا يؤمنون بأن الصحافة رسالة؟ من لم يستزلم بعد لزعيم؟ من لم يتناتش بعد ثياب "صاحبة الجلالة"؟ أي صحافي يجرؤ بعد أن يقول إنه حر؟

ليس علينا نحن الأحياء أن ننعي الشهداء. فالشهداء، من وراء الغيب، ينعون استشهادنا.

17/5/1982