قُلْ للعابر أن يعود

نَسيَ هنا ظِلَّه

 

 

 

وديع سعادة

 

 

 

الطريق

 

...وحين نأى هدأت الريح.

كان في العاصفة. مقتلَعاً مخلَّعاً مشلَّعاً. رأسه في مكان، يده في مكان، قلبه في مكان، وعبثاً حاول جمع أعضائه.

لم يكن له اسم. سمَّاه بعضهم "منحرفاً" لأن لا طريق له، وسمَّاه بعضهم "هابّاً" لأن لا مقعد له، وسمَّاه بعضهم "غباراً" لأنَّ كلَّ شظيَّة منه في مكان. كانت له أسماء كثيرة استحال جمعها في اسم. كانت له أسماء كثيرة، ولم يكن له اسم.

الذي بلا اسم كان في العاصفة وكانت ترتطم به طيور ميْتة تحملها الرياح وغصونٌ متكسّرة وجمعٌ مرتجف لا يعرفه.

سمع أصواتاً تصرخ: "أيها العالَم ! أيها العالَم !".

ولمستْه جموع، لمسه العالَم، ولم تخرج منه أيَّة قوَّة.

لم يكن هو السيّد، لم يكن هو المصطفى. كان المرتجفَ مثلهم في الريح. وبالكاد خرج منه صوت: " ما جئتُ لأُكمل ولا جئتُ لأنقض، بل أنا النقصان والأنقاض والنقيض". وضيَّع صوته، ولم يبحث عنه، ولا بحث عنه أحد.

الذي لم يكن سيّداً، وبلا اسم ولا صوت، كان يتحدَّث فقط في قلبه.

قال أنا بلا اسم كي أكون كلَّ الأسماء، وبأعضاء متناثرة في كل مكان كي تكون كلُّ الأمكنة مكاني. إن نادى أحدٌ أحداً، أينما كان، أليس عليَّ أنا أيضاً أن أجيب؟ وإن كبا كائن في أي مكان، ألا يجب أن يكون مني شيء هناك كي أحنو عليه؟

قال أنا الكائن هناك، وأنا المنادي هناك، وأنا المجيب والحاني. والغصن المنكسر أمامي كان ضلعاً مني والطير الميْت المرتطم بي كان بعض حياتي. كل الغصون في الشجر هي ضلوعي أيضاً، والطيور على الأرض وفي الجوّ إخوتي. والأحجار، هنا وهناك، عظامٌ لي لم يكتمل نموُّها، فهل أتنكَّر لعظامي؟

هبَّ المنحرف حاملاً معه الشجر والطيور والعظام. لا إلى أرض، لا إلى مكان. هبَّ إلى الشساعة، إلى كل الأمكنة، محمولاً بالعاصفة، وحاملاً السكينة: سكينة الشجر إذ يمتلئ بالتراب. سكينة الطير إذ يمتلئ بالفضاء. سكينة العظْم إذ يفرغ من الجسد.

هبَّ عاصفاً، لكن أينما عصفت الريح به كانت السكينة في قلبه.

مثلهم، نعم، كان مرتجفاً، لكنَّه حوَّل الارتجاف إلى سكينة. ففي أمكنة هناك كان هدوء، وشظاياه التي هناك جلبت الهدوء إلى شظاياه التي هنا.

ثمة سلْكٌ لا يراه أحد، يجعل المقيمين هناك هنا، والمقيمين هنا هناك.

وهو كان هنا، ومقيماً هناك. وكان هناك، ومقيماً هنا.

لا تدعِ النبعَ يغفو. رُشَّ على وجهك من مائه قليلاً فيصحو. وتصحو معه الجبال والوديان التي أوصلته إليك.

خُذِ القطرة بيدك فيصحو الغيم وتصحو السماء.

وإنْ رأيتَ سحْلية لا تنهرْها، اتبعْها، فقد تأخذك إلى الكنز. كلُّ ما تبحث عنه هو لا شيء، سوى وكْر السكينة.

وَضَعَ يده في النبع ورشًّ ماء على وجهه. رشَّ غيماً، رشَّ سماء. وضاع وجهه في الفضاء وانتظر نقطة، كي تعيد وجهه إليه.

ثمة أكثر من وجه في الغيمة. ثمة أكثر من غيمة في الوجه.

وحاول أن يرى.

نظر إلى فوق، ولم يرَ. نظر إلى تحت، ولم يرَ. وحين أغمض عينيه رأى: سحْلية ميْتة.

كان ذلك في الماضي البعيد، حين كان نبع وشجر وغيم وسماء وأرض. كان ذلك في الماضي، حين كانت عيون.

وحين كان للسحْلية وكْر.

كان ذلك حين كانت دروب، وحين كان يمكن أن ينحرف المنحرفُ عنها. وحين كانت غصون الأشجار ضلوعاً، والمنكسر منها، حتى في غابات الأمازون، عظامك.

كان ذلك في الماضي البعيد، الذي لم يكن.

 

هبَّ "الهابُّ" واصطدمت به جموع، ولم يلتفت إليه أحد. لم يسأله أحد سؤالاً، لا عن المحبة، لا عن الزواج، لا عن الأولاد...لم يكن المصطفى ولا السيّد، ولا سفينة له ولا هيكل ولا تلاميذ. ولو سألوه ما كان سيجيب. لم يكن يعرف جواباً. كان يعرف فقط أنَّ الهبوب يجرف كلَّ شيء، الأسئلةَ والأجوبة والكلام، ويصمت.

كان طفلاً في حقل حين هبَّت عليه أوَّل ريح، وسقطتْ ورقة من شجرة أمامه. انتظرَ، علَّ الريح تعود، وتعيد الورقة إلى الشجرة.

ثم رأى الشجرة كلَّها تهوي.

ثم لم يعد يرى أيَّ حقل.

وما بقي للبستانيّ أن يفعل غير جمْع الأوراق وكسور الشجر. ما بقي للبستانيّ أن يفعل غير إحراق بستانه.

وتيقَّن، حينذاك، أنَّ ما يراه في البعيد، أنَّ ما يسعى إليه، هو الدخان.

لكنْ، في ذاك الدخان ورق وشجر. في ذاك الدخان حقول. في ذاك الدخان هو حين كان طفلاً، وهو حين كبر... إنه، الآن، في ذاك الدخان.

إنه هناك، في الدخان الذي يراه في البعيد.

ولا شكَّ معه أيضاً ناسٌ هناك. فالناس ليسوا هنا وهو ليس هنا. فأين يكون وأين يكونون إنْ لم يكن هناك؟

ولكنْ، أين الهناك؟

صُبَّ الناسَ والحقول في كأسك واشربْهما. وصُبَّ نفسك أيضاً واشربْها.

صُبَّ الناس والحقول ونفسك في عينيك واغمضهما، وإلا يضيع الناس وتضيع الحقول وتضيع أنت.

صُبَّ الدخان.

وقلْ للسحْلية التي ماتت قبل أن تصل إلى وكرها: لا كنز في الوكر.

وافرشْ شريط أغانٍ على الغصون، فلعلَّ الأشجار تغنّي.

رأيتُ شجراً يفتح فمه. رأيتُ أوراقاً تصفّق، وغصوناً تطلع من الرماد، وترقص... هناك، في البعيد، حيث كان يستلقي قلبي.

أريد قدماً لهذا القلب. هذا القلب يريد أن يرقص مع الشجر.

صُبَّ الترابَ في شرايينك واخترعْ قدماً. صُبَّ تراباً واخترعْ شجراً ورقصاً.

صُبَّ تراباً. فإنْ ترمَّد الشجر، قد تبزغ نبتة من ترابك. قد تبزغ شجرة.

وإنْ خلوتَ من شريط غناء، قد يأتي عصفور يحطُّ عليها، ويغنّي.

 

بعضهم سمَّاه "المنحرف". بعضهم سمَّاه "الغبار". وبعضهم سمَّاه "الماحي"...

محا "الماحي" قدمه ومضى بلا قدم.

لم تكن هناك طريق. استنسخَ من حذائه طريقاً.

لم يكن هناك شجر. استنسخَ من ضلوعه جذوعاً وأغصاناً. ومن أنفاسه استنسخ ريحاً عائدة، كي تعيد الورقة إلى الشجرة.

حين رأى الريح تُسقط الورقة أمامه انتظر وبكى، لأنَّ الريح لم تَعُد ولم تُعِد الورقة إلى غصنها... ويحزن الآن لأنَّ دموعه لم تكن حينذاك مطراً، فلعلَّ الورقة كانت شربت قبل أن تموت.

صُبَّ دمعاً في كأسك صُبَّ مطراً على ورقٍ ميْت.

صُبَّ شجراً، من ضلوعك.

 

استنسخَ طريقاً من حذائه.

وطوى الطريق، طيَّة طيَّة، ووضعها في جيبه.

وصار، عوض أن يمشي على الطريق، يمشي في ثنايا ردائه.

لم تكن هناك طريق، ولا حذاء له ولا ثوب. لكن قال ذلك كي يكون له مشي.

لم يكن له شيء. كان له القول فقط. كان له القول، والمشي في القول.

وقطعَ الدروب كلَّها مشياً على الكلام.

لا تلفظِ الكلمة الأخيرة، لا تقلْ الكلمة التي في آخر الطريق. قد يسمعها أحد في أوَّل الطريق ولا يعود يمشي.

وإذ تطوي الطريق وتضعها في جيبك، تيقَّنْ أنْ لا أحد ماشٍ عليها. هكذا يخفُّ حمْلك.

وهكذا لا تزعج الماشين.

وإنْ أردتَ رفيقاً، فأيُّ رفيق أعزُّ من وحدتك؟

امشِ على الكلام. امشِ على اللهاث الذي يخرج من فمك.

وسترى في لهاثك طريقاً، وشجراً أيضاً.

امشِ في ثنايا ردائك. امشِ على الطريق المطويَّة في جيبك.

بين لهاثك وثوبك طريق، ويمكنك أن تمشي عليها العمر كلَّه.

 

 

المَقعد

 

مشى ناظراً إلى فوق، إلى الغيم الذي يعبر، وقال في قلبه: إنهم يعبرون أيضاً هناك.

هناك أيضاً فوق من يمشي، ولا مقعد له.

ولكن من هم هؤلاء الذين طلعوا من ماء ويمشون فوق؟ لا شكًّ بينهم أنفاسُ غرقى.

مُدَّ نظرةً إليهم، مُدَّ كرسيّاً، فلعلَّهم متعبون.

مشى خافضاً رأسه. لا يريد أن يرى أنفاس غرقى في الفضاء. مشى خافضاً رأسه، وانتابه حُبٌّ هائل للتراب.

ما في قلبي على الأرجح هو تراب إذاً وليس دماً، قال، ومشى.

 

ابحثْ في التراب حبَّةً حبَّة، قد تجد نفسك، أو على الأقلّ قطعةً منك.

قد تجد قطعة من أجدادك، ومن أحفادك الذين لم يولدوا بعد.

ابحثْ في التراب قد ترى أصدقاء، وقد تتعرًّف إلى ناسٍ لا تعرفهم.

انبشْ التراب الذي في قلبك، ستجد كثيرين مدفونين هناك، ينتظرون أن يصل مِعْولك إليهم كي يحيوا.

 

تعبَ وأراد أن يجلس.

على الطريق أحجار. حجرٌ مستطيل يريد أن يمشي. حجر مكوَّر يندب نفسه. حجر ذو ثغرة كفمٍ يريد أن يقول شيئاً. حجر مائل يستنجد بحجر آخر...

أحجار في جوفها شرايين، في جوفها دم... هل يجلس على دم؟!

ابسطْ نظرتك على الأرض واجلسْ عليها.

استرحْ في عينيك.

في العيون مقاعد. اسحبْ كرسيّاً من عينك واقعدْ عليه.

قديماً، مرَّ متعبون كثيرون وقعدوا في عينه. استراحوا قليلاً من سفر طويل، ثم تابعوا المشي على نظرته.

في ذاك الوقت كان يمكن أن تخرج العينُ من محجرها وتصير طريقاً. وحين يتعب الماشون، كان يمكن أن تعود إلى محجرها وتصير بيتاً.

كان يمكن تلك العين أن تؤوي آلاف المتعبين، وآلاف الضالّين، في محجرها الصغير، وأن تقدّم لهم طعاماً وشراباً من شرايينها التي لا تُرى.

الأحجار ليست مقاعد، وعلى حوافي العين رمل، قد يكون من الدموع. من دموع المتعبين الذين يمشون كلًّ حياتهم ولا يجدون مقعداً.

هيَّا، تابعِ المشي. لا تجلسْ على رمل. لا تجلسْ على دمع.

وافترضْ أخذتَ كرسيّاً من عينك وجلست. أليس كلُّ الذين تنظر إليهم يجلسون عليه؟ فهل تجلس على جالسين؟!

هم أخذوا المقعد قبلك. فبمجرًّد أن نظرتَ إليهم صار المقعد في عينك لهم. امشِ، لا مقعد لك في عينك ولا مقعد لك على الطريق.

امشِ.

وانتظرْ أن تنظر إليك عينُ عابرٍ آخر، فلعلَّك تقعد وتستريح فيها.

 

 

العيون أيضاً

 

يعبرون، أفراداً وجموعاً، ولا أحد ينظر إليه.

إلى أين تذهب نظراتهم، لا يعرف. أين تحطُّ النظرة إنْ لم تحطَّ على ناس؟!

يسمع أنيناً تحت الأقدام. ويعتقد أنَّ من يئنُّ هناك هي العيون.

انتشلِ العيونَ من التراب وضعْها على الغصون، فالأشجار تريد أيضاً أن تنظر.

انتشلْها وضعْها على الحجارة، فربما الحجارة تريد أن تمشي وينقصها النظر، أو على الأقلّ تريد أن ترى من يقعد عليها.

ليس عدلاً أن لا يكون للنظرات مكان.

ليس عدلاً أن لا تعرف العيون إلى أين تذهب نظراتها.

وإن احترتَ إلى أين ترسل نظرة فضعْها على الطريق. قد يمرُّ أعمى ويكون في حاجة إليها.

قال هذا والجموع تعبر ولا أحد يلتفت إليه.

نظرات، يتيمة، في فضاء فارغ.

تمنَّى لو يخلق لها أباً، أمّاً، أخاً، رفيقاً...

نظرَ، ولم يرَ رحْماً.

نظرَ، ولم يرَ.

كأنه كان هو العابرين.

ومثلهم لم يعرف إلى أين تذهب نظرته.

 

 

الظِلّ

 

اخرجْ وقُلْ للعابر أن يعود. تَرَكَ ظِلاًّ هنا فيه لهاثه.

ظلٌّ فيه شوارع. فيه مسافات. فيه جبال ووديان وذكريات

وفيه ناسٌ علقوا به وهو يعبر في محاذاتهم. 

مَرَّ على الحدائق، وصار فيه زهور. مَرَّ في الشوارع، وصار فيه ناس. مَرَّ في الليالي، وصار فيه قمر. مَرَّ في النهارات، وصار فيه شمس. مَرَّ على المقابر، وصار فيه موتى.

قلْ للعابر أن يعود ويجمع زهور ظلّه، وناسَ ظلّه، وقمر ظلّه، وشمس ظلّه، وموتى ظلّه...

قلْ له إنَّ الحدائق

والقمر

والشمس

والأحياء والموتى

في ظلّه.

  

 

لهاث العابر

 

ترك العابر بعض لهاثه ممدَّداً على الدروب، وبعضَه شارداً في الفضاء.

لهاثٌ يطأ عليه المارَّة

ولهاثٌ يجهد كي يصير غيمة.

ترك العابر لهاثاً يمشي في الشوارع مع الأقدام، أو يصير تحتها تراباً

ولهاثاً يمشي مع الهواء، يرتطم بأشجار وبنايات، بقطارات وسفن، يعلو ويهبط، يهبط ويعلو، ولا يصير غيمة.

 

انحرفْ عن الطريق. لهاثك فيه ناسٌ فلا تدعْ أقداماً تطأ عليهم

وانحرفْ عن الفضاء. للفضاء رئة شاردة لا تتركْ لهاثك فيها فيشرد.

 

امشِ كأنْ لا لهاث لك. امشِ كأنك ميْت

فلا يشرّد الفضاءُ لهاثك

ولا أحد يطأ عليه.

 

 

الذي غرق

 

الذي غرق في الماء صار سحابة

ثم نزل قطرةً قطرة

والسابحون في البحر يسبحون فيه.

 

 

النائمون على الحافَّة

 

النائمون على الحافَّة جميلون

لا النهار لهم ولا الطريق

ليس عليهم أن يروا ولا أن يمشوا

النائمون على الحافَّة

وصلوا.

 

كانت على الطرقات شاحنات تصمُّ الآذان

وشوارع ومفارق يدورون فيها عمياناً

كانوا يبحثون عن مكان، لا إشارة له

يبحثون عن طريق، لا مفرق لها ولا علامة

فناموا على الحافَّة

ووصلوا

في نومهم.

 

 

دقُّوا على بابه وقالوا

 

دقُّوا على بابه وقالوا: نحمل لك شفاء مدى الحياة، وأبديةً أيضاً، لا تغلق الباب، دعنا ندخل ونعطِك الدواء.

ما كان يعرف أنَّ شفاءه وخلوده موصولين بغرباء مارّين في هذا الشارع.

ما كان يعرف أنَّ شفاءه وخلوده رهْن طرقةٍ على الباب.

في بيتي موتى كثيرون، قال، ومرضى كثيرون. هل يكفي دواؤكم كلَّ هؤلاء؟

لم يغلق الباب. كانت في الحوض زهرة فنظر إليها، وإلى ورقة يابسة.

ينظرون إليه، وينظر إلى الورقة والزهرة.

يتكلمون، والزهرة والورقة صامتتان.

ولم يكن يسمع كلاماً بل صمتاً.

ثم أقفل الباب

وعاد إلى مرضه

وموته.

 

 

 

 

انظرْ إلى الجبل

 

انظرْ إلى الجبل، حيث يستلقي خروف خرج اليوم من عينك ونام هناك

خروف وُلد تحت جفنيك، من لقاح أضواء غريبة

وأكل عشباً كثيراً كان يطلع من قلبك.

 

انظرْ إلى الجبل وناجِ الخروف

ومسّدْ صوفه بنظراتك

وإنْ يبس العشب هناك أوصلْ شرايينك بتراب الجبل، واطعمْه عشباً من قلبك.

انظرْ إلى الجبل. ودُلَّ الذئاب إلى طريق أخرى لا تمرُّ أمام خروفك

نائمٌ وصغير

فدعْه ينم.

 

انظرْ إلى الجبل

ولا تدعْ نظرتك تذهب إلى هناك من دون أن تحمّلها طعاماً

إلى العصفور الذي كان في صدرك

ارسلْ له قمحاً، من دموع تجفَّفت وصارت حبوباً للعصافير

وارسلْ للنحل زهوراً، كانت حدقات

وللشجر جذوراً، كانت شرايين.

انظرْ

إلى الجبل.

 

 

النسائم التي مرَّتْ

 

النسائم التي مرَّتْ في رئتيه كانت لها أسماء

أسماءُ مدنٍ وقرى وشوارع وصحارى وغابات

وأسماءُ ناس

يتنفَّسون بقربه.

 

أمكنة كثيرة في رئتيه

وناسٌ كثيرون

دخلوا مع الهواء ثم غابوا

وما تنفًّسه

كان غيابهم.

 

ما في صدره كان رئات العابرين

ولم يكن يتنفَّس الهواء

بل العبور.

 

 

الذي مات ولم يرَ الغزالة

 

الغزالة ستأتي إلى النبع، قال مراراً

الغزالة ستخرج من رأسي وتشرب

لم يعد في رأسي ماء

فاخرجي يا غزالة.

 

انتظرَ الغزالة ستين عاماً على النبع

أراد فقط أن يراها

هذه التي جالت طويلاً في خياله ورَعَتْ

عشبَ رأسه.

 

 

النائم على الرصيف

 

النائم على الرصيف يفتح عينيه بين وقت وآخر

يحدّق بي

ويتمتم: ألا تعرفني؟

ألستَ أنا حين كنتُ أمشي؟

ألم نعبر الأرض معاً؟ مرَّات على الأقدام ومرَّات في سهونا عن الأرض؟

ألم نغرق في النهر معاً؟

والنمال التي كانت على الدروب، كم مرَّة رفعتْ أقدامَنا عن الأرض وغيَّرتْ وُجهاتنا؟

 

أنظرُ إلى النائم على الرصيف

ولا أعود أمشي

وينظر النائم على الرصيف إليَّ

ويعود إلى النوم.

 

 

يبحث عن خشب

 

دخلتْ دروب كثيرة في عروقه وسالت مع دمه

دخلتْ جبال، وسالت

في دمه طوفان

ويبحث في عروقه عن خشب

كي يبني سفينة.

 

 

الرحلة

 

وَضَعَ الطريقَ في صدره

ومشى عليها طوال العمر.

 

 

 

اذهبْ إلى الغابة

 

اذهبْ مع الهواء إلى الغابة

نِمْ على ورقة، ادخلْ في أريج زهرة، واذهبْ مع النسيم إلى الغابة

الطير الذي مرَّ أمام بيتك ولم تطعمه

تفقَّدْه إنْ كان جائعاً، إنْ كان مات

تفقَّدِ الأشجار التي قلتَ إنها ضلوعك

وعُدَّ كم منها انكسر

وتفقَّدْ مجرى النهر الذي حفرتَه في خيالك كي تسقيها.

 

اذهبْ إلى الغابة

أكيد هناك من هو في انتظارك

ربما غصن يريد أن يراك

ربما عشبة تريد أن تتحدَّث إليك

استلقِ على نسمة

نِمْ على ورقة

واذهب إلى الغابة.

 

 

 

كلمة فقط، أو إشارة

 

كلمة، كلمة فقط

أو إشارة

كي أرى بيتاً في تموُّجات الصوت

ومَقعداً في عروق اليد التي تلوّح.

 

كلمة أو إشارة

كي يقعد هذا الحشد الواقف في قلبي.

 

 

 

كيف؟

 

كيف للسابح أن يصل

والبحر يغرق؟

 

 

 

 

غيوم

 

في عيونه غيوم

ويحدّق في الأرض

علَّها تمطر.

 

 

 

برقَّة من يحمل طفلاً

 

برقَّة من يحمل طفلاً

يحاول أن يجعل ذراعه نسمة.

 

 

 

خُذ الحطبَ في نزهة

 

ضعْ يدك في يد الحطب المحروق

وخذْه في نزهة

خذْه إلى الغابة كي يرى أهله

كي يرى أولاده الذين وُلدوا بعد رحيله

ضعْ يدك في يد الحطب المحروق وخذْه إلى النهر

يريد أن يشرب.

 

 

الرياح تدقُّ على بابه

 

الرياح تدقُّ على بابه

كي تسأل ربما لماذا تأخَّر اليوم عن الهبوب معها،

كان تقريباً هواء

كان تقريباً رياحاً

لا مكان له غير الهبوب

ولا رفيق

لا الشجر لا الحجر لا التراب

كان تقريباً رفيق الفضاء

الفارغ.

 

تدقُّ الرياح على بابه

على باب قلبه الذي خلعته الرياح

ودخلتْ

ولم تجدْ أحداً.

 

 

 

تحاول أن ترفع يداً

 

للطريق رئة

وعيون

ودقَّات قلب.

 

للطريق دقَّات قلب متعَبة

ورئة

ملأى بغبار الدعسات

وعيون

تنظر إلى الماشين عليها وتدمع

تحت أقدامهم.

 

للطريق رئة تئنُّ تحت ثقل الخطى

وعيون تفقأها الأقدام

وذراع مكسورة

ومع ذلك تحاول أن ترفع يداً

كي تحيّي العابرين.

 

 

 

لا

 

لا تدقَّ على الباب

امشِ

مَن في الداخل يدقُّ على الباب أيضاً

ولا أحد يفتح له.

 

 

 

 

 

 

رفاق

 

لديك ما يكفي من ذكريات

كي يكون معك رفاق على هذا الحجر

اقعدْ

وسَلِّهمْ بالقصص

فهم مثلك شاخوا

وضجرون

قُصَّ عليهم حكاية المسافات

التي مهما مشت

تبقى في مكانها

أخبرْهم عن الجنّ الذي يلتهم أطفال القلب

عن القلب الذي مهما حَبِلَ

يبقى عاقراً

حدّثْهم عن العشب الذي له عيون

وعن التراب الأعمى

عن الرياح التي كانت تريد أن تقول شيئاً

ولم تقلْ

وعن الفراشة البيضاء الصغيرة التي دقَّت على بابك في ذاك الشتاء

كي تدخل وتتدفأ.

 

لديك رفاق على هذا الحجر

لا تدعْهم يضجرون

أخبرْهم عن الخراف التي بلا راعٍ

وعن الراعي الذي بلا خراف

عن الراعي الذي ضلَّ والخرافِ التي تعرف الطريق

أخبرْهم حكاية الذئب

وحكاية القبَّرة

وحكاية الغول

وإنْ لم يكن لهؤلاء حكايات فاخترعْها

اخترعْ حكايات

اخترعْ ذئاباً وجنّاً وخرافاً ورعياناً وفراشات

رفاقك مثلك شاخوا

ويقعدون على حجر صغير

اخترعْ لهم مسافات.

 

 

 

 

سفَرٌ مع الدخان

 

في الرقم عشرة من شارع "لوريكيت" في سيدني

أدخّنُ الآن سيكارة وأقول:

فعلتُ عملاً رائعاً اليوم

أخرجتُ من فمي دخاناً ونظرتُ إلى الدخان.

 

الدخان عملٌ جميل

وعملٌ جميل هو النظر

وأنا لديَّ كلاهما، فيا لجمال حياتي!

 

كنتُ مخطئاً حين ظننتُ أن الفم موقدة مطفأة

أو فقط للكلام

وأن النظر ليس إنجازاً رائعاً.

كنتُ مخطئاً حين اعتقدتُ أني

في هذه الغرفة الضيّقة

ليس في وسعي أن أنتشر في كل الشارع بدخاني ونظراتي

ومخطئاً كذلك

حين حاولتُ أن أنزع ذراعيَّ

وأضع مكانهما ريشاً

كي أصير عصفوراً

وأن أنزع بعد ذلك الريش

كي أصير نسيماً.

 

كان يمكنني أن أفعل كلَّ ذلك

في الدخان الذي يخرج من فمي

وفي النظرة التي تتبع الدخان.

 

 

 

 

 

كأنَّ

 

في رأسي غيم

كأنَّ رأسي يريد أن يمطر

كأنَّ تراباً في رأسي عطشان

كأنَّ بلاداً في رأسي لا يصل إليها المطر

كأنَّ في رأسي مسافرين عطاشى

وسنونوات

تريد أن تشرب

كأنَّ فلاَّحين تفقَّدوا أباريقهم

ووجدوها فارغة

كأنَّ بحراً في مكان ما جفَّ

وأسماكه تبحث عن ماء

وكأنَّ المسافة

بين الرأس والأرض

تتطلَّب نهراً في الرأس كي تُعْبَر.

 

 

 

كان

 

كان بودّي أن أكتب أغنية

كي يتسلَّى بها المسافرون في الطريق الطويل

المسافرون الضجرون من السفر

ومن الطريق.

 

كان بودّي أن أُوصل المسافرين إلى محطَّاتهم

بصوتٍ يقطع المسافات عنهم

وهم نيام.

 

كان بودّي أن أكتب أغنية

أن أجد كلمات

تقتل الضجر

كلمات

تقتل الطريق.

 

 

 

رغبة

 

في فمي رغبة مالحة

ولا أعرف كيف أبصقها.

 

 

 

 

إنْ مشيتَ أو قعدتَ

 

الماء أعلى من الرصيف

إنْ مشيتَ

أو قعدتَ

ستغرق.

 

 

 

 

لم يرَ طريقاً، لم يقلْ كلمة

 

كلُّ ما رآه كان مشهداً واحداً: قلبه

مسافة طويلة

طويلة ولم تكن

غير دوران في قلبه.

 

جاءت الريح وأخذته وهو جالس في قلبه

لم يرَ طريقاً

لم يقلْ كلمة

بحثَ عن طريق

عن كلمات

عن عيون

وذهبَ أعمى

وصامتاً.